بازگشت

وفاته


لم تكتف الطغمة الغاشمة من العباسيين من اراقة دماء آل رسول الله (صلي الله عليه و آله) فقد بدء المنصور الدوانيقي باراقة دماء العلويين، و تبعه أبناؤه، الي الهادي العباسي، الي هارون الرشيد، الي المأمون، الي المعتصم، الي المعتز، و الذين كانوا يدورون في فلك هؤلاء من عملائهم و نظرائهم كالبرامكة و امثالهم.

فلقد أقاموا المجازر و المذابح في العلويين بصورة وحشية، فتلك مجزرة الفخ، و تلك مجزرة الجوزجان، و غيرها من الفجائع التي قام بها العباسيون طيلة قرن و نصف تقريبا، عدي الذين قضوا حياتهم في السجون، و ماتوا فيها و السلاسل و القيود في أعناقهم و أرجلهم.

و قد تعلم العباسيون من أشباههم من الأمويين و اقتدوا بهم في دس السم الي الأئمة الطاهرين و حاولوا أن تقع جناياتهم بصورة سرية. حتي لا يطلع عليها أحد، ولكن الجريمة كانت تنكشف و تظهر و يطلع عليها الناس؛

و قد وصلت النوبة الي الامام الحسن العسكري (عليه السلام) و قد قرأت - فيما مضي - ما تحمله الامام من أنواع الأذي و الضغط و الكبت، و السجون التي دخلها، و المحاولات العديدة للقضاء علي حياته، فكانت محاولاتهم تبوء بالفشل، و تحدث اضطرابات داخلية تشغلهم عن تنفيذ خططهم، أو يحول



[ صفحه 287]



الموت دون الوصول الي آمالهم؛

و أخيرا: لما تربع المعتمد العباسي علي منصة الحكم سار علي سيرة أسلافه في ايذاء الامام:

في كتاب (المناقب): و روي أنه سلم الي يحيي بن قتيبة و كان يضيق عليه، فقالت له امرأته: اتق الله! فاني أخاف عليك منه.

قال: والله لأرمينه بين السباع، ثم استأذن في ذلك فاذن له، فرمي به اليها و لم يشكوا في أكلها اياه، فنظروا الي الموضع فوجدوه قائما يصلي، فأمر [يحيي] باخراجه الي داره؛

و روي: أن يحيي بن قتيبة الأشعري أتاه بعد ثلاث مع الاستاذ، فوجداه يصلي، و الاسود حوله، فدخل الاستاذ الغيل [1] فمزقوه و أكلوه، و انصرف يحيي في قومه الي المعتمد، فدخل المعتمد علي العسكري، و تضرع اليه، و سأل أن يدعو له بالبقاء عشرين سنة في الخلافة؛

فقال (عليه السلام): مد الله في عمرك. فاجيب [دعاء الامام] و توفي [المعتمد] بعد عشرين سنة [2] .

فكان جزاؤ الامام العسكري (عليه السلام) من المعتمد العباسي أن دس السم الي الامام.

و الآن استمع الي أحمد بن عبيدالله بن الخاقان، الذي كان هو و أبوه من عملاء العباسيين، و ممن باعوا دينهم و آخرتهم للعباسيين في مقابل حطام الدنيا، و متاعها الفاني الزائل:

قد ذكرنا - في باب أصحابه (عليه السلام) في حرف الألف - كلاما لأحمد بن عبيدالله بن خاقان و نذكر - هنا بقية الخبر، تتميما للفائدة:



[ صفحه 288]



... ولو رأيت أباه رأيت رجلا، جزيلا، نبيلا، فاضلا [3] .

فازددت قلقا و تفكرا و غيظا علي أبي و ما سمعت منه و استزدته في فعله و قوله فيه ما قال [4] .

فلم يكن لي همة - بعد ذلك - الا السؤال عن خبره، و البحث عن أمره، فما سألت أحدا من بني هاشم و القواد و الكتاب و القضاة و الفقهاء و سائر الناس الا وجدته عنده في غاية الاجلال و الاعظام، و المحل الرفيع، و القول الجميل، و التقديم له علي جميع أهل بيته، و مشايخه؛

فعظم قدره عندي، اذ لم أر له وليا و لا عدوا الا و هو يحسن القول فيه و الثناء عليه!

فقال له [لأحمد بن عبيدالله] بعض من حضر مجلسه من الأشعريين:

«يا أبابكر! فما خبر أخيه جعفر» [الكذاب]؟

فقال: و من جعفر، فتسأل عن خبره؟ أو يقرن بالحسن؟ جعفر معلن الفسق، فاجر، ما جن شريب للخمور، أقل من رأيته من الرجال، و أهتكهم لنفسه، خفيف، قليل في نفسه؛

و لقد ورد علي السلطان و أصحابه - في وقت وفاة الحسن بن علي - ما تعجبت منه، و ما ظننت أنه يكون؛

و ذلك: انه لما اعتل [الامام العسكري] بعث [جعفر] الي أبي: «ان ابن الرضا قد اعتل».

فركب [أبي] من ساعته، فبادر (مبادرا خ ل) الي دار الخلافة، ثم رجع مستعجلا، و معه خمسة من خدم أميرالمؤمنين! كلهم من ثقاته! و خاصته! فيهم: نحرير!!

فأمرهم بلزوم دار الحسن، و تعرف خبره و حاله، و بعث الي نفر من



[ صفحه 289]



المتطببين فأمرهم بالاختلاف [التردد] اليه، و تعاهده صباحا و مساء!!

فلما كان - بعد ذلك - بيومين أو ثلاثة اخبر [أبي] أنه قد ضعف! فركب حتي نظر اليه، ثم أمر المتطببين بلزوم داره، و بعث الي قاضي القضاة، فأحضره مجلسه، و أمره أن يختار من أصحابه عشرة ممن يوثق به في دينه! و أمانته! و ورعه! فأحضرهم، فبعث بهم الي دار الحسن و أمرهم بلزومه ليلا و نهارا، فلم يزالوا هناك حتي توفي؛ (لأيام مضت من شهر ربيع الأول سنة ستين و مائتين) [5] .

فصارت سر من رأي ضجة واحدة (: مات ابن الرضا) [6] ، و بعث السلطان الي داره من فتشها، و فتش حجرها [جمع حجرة] و ختم علي جميع ما فيها، و طلبوا أثر ولده، و جائوا بنساء يعرفن الحمل، فدخلن الي جواريه ينظرن اليهن؛

فذكر بعضهن أن هناك جارية بها حمل، فجعلت في حجرة، و وكل بها نحرير الخادم!! و أصحابه، و نسوة معهم!!

ثم أخذوا بعد ذلك في تهيئته [تغسيله و تحنيطه و تكفينه] و عطلت الأسواق، و ركبت بنوهاشم و القواد، و أبي، و سائر الناس الي جنازته.

فكانت سر من رأي - يومئذ - شبيها بالقيامة؛

فلما فرغوا من تهيئته بعث السلطان الي أبي عيسي ابن المتوكل، فأمره بالصلاة عليه، فلما وضعت الجنازة للصلاة عليه دنا أبوعيسي منه فكشف وجهه، فعرضه علي بني هاشم من العلوية و العباسية، و القواد و الكتاب، و القضاة و المعدلين!! و قال: هذا الحسن بن علي بن محمد ابن الرضا، مات حتف أنفه



[ صفحه 290]



علي فراشه!! حضره من حضره من خدم أميرالمؤمنين و ثقاته: فلان و فلان، و من القضاة: فلان و فلان، و من المتطببين: فلان و فلان.

ثم غطي وجهه، و أمر بحمله، فحمل من وسط داره، و دفن في البيت الذي دفن فيه أبوه.

لما دفن أخذ السلطان و الناس في طلب ولده، و كثر التفتيش في المنازل و الدور، و توقفوا عن قسمة ميراثه،

و لم يزل الذين و كلوا بحفظ الجارية - التي توهم عليها الحمل - لازمين، حتي تبين بطلان الحمل، فلما بطل الحمل عنهن قسم ميراثه بين امه و أخيه جعفر،

و ادعت امه وصيته، و ثبت ذلك عند القاضي؛

و السلطان علي ذلك يطلب أثر ولده،

فجاء جعفر - بعد ذلك - الي أبي، فقال: اجعل لي مرتبة أخي، و اوصل اليك في كل سنة عشرين ألف دينار!!

فزبره [7] أبي، و أسمعه.

و قال له: يا أحمق!! السلطان جرد سيفه في الذين زعموا أن أباك و أخاك أئمة، ليردهم عن ذلك، فلم يتهيأ له ذلك،

فان كنت - عند شيعة أبيك و أخيك - اماما، فلا حاجة بك الي السلطان أن يرتبك مراتبهما، و لا غير السلطان، و ان لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بنا.

و استقله أبي عند ذلك، و استضعفه، و أمر أن يحجب عنه، فلم يأذن له في الدخول عليه حتي مات أبي، و خرجنا و هو علي تلك الحال، و السلطان يطلب أثر ولد الحسن بن علي (حتي اليوم)!! [8] .

أقول كلمة «حتي اليوم» مذكورة في (اكمال الدين).

انظر الي جملات هذا الخبر، ثم ضعها علي طاولة التشريح.



[ صفحه 291]



هذه اعترافات أحد اولئك المجرمين، الذين امتلأوا حقدا و عداء لآل رسول الله (صلي الله عليه و آله) فانه يعترف بالقلق و الغيظ علي أبيه: عبيدالله بن الخاقان، بسبب ما سمعه و رآه (أحمد) من أبيه - في حق الامام العسكري (عليه السلام) من الاحترام و التعظيم في حضوره و الثناء عليه في غيابه؛

و لما سأله أحد الأشعريين عن جعفر (الكذاب) أجابه بأن جعفرا كان فاجرا ماجنا شريبا للخمور... الي آخره.

فياليت ذلك الأشعري سأله:

هل كان العباسيون (الذين ادعوا الخلافة) عبادا، زهادا، و صلحاء و أتقياء؟

و أي واحد منهم خلا قصره من الخمور و الفجور؟ الواثق؟ المتوكل؟ المنتصر؟ المستعين؟ المعتز؟

و حتي أحمد (المتحدث بهذا الحديث) هل كانت صفحة حياته بيضاء نقية؟

أما كانت بيوتهم مراكز للملاهي و المناهي و المنكرات، حتي يعيب علي جعفر بالفجور و المجون و شرب الخمر؟

نعم، انهم كانوا هم أظلم و أطغي.

و بعد ذلك: ما كان مرض الامام العسكري حتي يستدعي هذا الاهتمام؟

و ما هو سبب استعجال عبيدالله (والد أحمد) في الذهاب الي دار الخليفة؟ و ما هي الأوامر التي تلقاها، و التدابير التي اتخذها؟

و لماذا رافقه من خدم الخليفة و ثقاته و خاصته، و فيهم نحرير؟

و من نحرير؟ اليس هو الذي حبس عنده الامام العسكري، و كان يؤذيه، فخوفته زوجته من سوء عمله، فقال: لأرمينه بين السباع، ثم استأذن في ذلك فاذن له؟ و قد ذكرنا الحديث في حرف النون في ترجمة نحرير.

نعم، هؤلاء الخاصة! الثقاة! الذين ارسلهم الخليفة الي دار الامام و أمرهم بلزوم داره، و تعرف خبره.



[ صفحه 292]



فلنفرض ان الامام العسكري مرض مرضا طبيعيا، فما الداعي الي ارسال المتطببين و القضاة و حاشية الخليفة لملازمته ليلا و نهارا؟

فهل كان الامام العسكري عزيزا مكرما عندهم؟ فلماذا أدخلوه السجون؟ و لماذا جعلوه تحت الرقابة؟ و لماذا أمروا باغتياله؟

و ما الداعي الي احضار قاضي القضاة، و انتخاب عشرة من أصحابه؟

فهل كان هناك ترافع أو مشكلة قضائية تتطلب حضور هؤلاء و ملازمتهم لدار الامام؟

و لماذا حاصروا الامام و طوقوه؟

اليس معني ذلك عدم السماح لأحد بالدخول علي الامام حتي لا ينكشف أمرهم؟ و حتي لا يخبر الامام أحدا من شيعته بأنه سقي السم؟

و هل كان أحد يتجرأ أن يخبر عن مسمومية الامام، مع وجود تلك السلطة الغاشمة؟

لقد ورد في أحاديثنا انه لم يحضر عند وفاة الامام العسكري (عليه السلام) أحد سوي زوجته السيدة نرجس و الامام المهدي (عليه السلام) و عقيد الخادم و اسماعيل بن علي، و قد ذكرنا الحديث في حرف الألف في ترجمة اسماعيل بن علي النوبختي، مما يدل علي أن اولئك العملاء و الجواسيس خرجوا من دار الامام بعد أن تأكدوا من قرب وفاته. ليحملوا البشري الي الخليفة بأن الهدف قد تحقق و أن الامام العسكري علي أعتاب المنية؛

و لعلهم كانوا نائمين في تلك الساعة من أول الفجر، و لم يحضروا ساعة وفاته،

فالذي قاله أحمد بن عبيدالله: أن [الموكلين بالامام]: لم يزالوا هناك حتي توفي لا ينسجم - مع ما رواه الشيخ الطوسي في (الغيبة) عن اسماعيل بن علي - الا بهذا التوجيه و التحليل.

نعود الي حديث أحمد بن عبيدالله فنقول:



[ صفحه 293]



لماذا هذا التحري و التفتيش الدقيق عن ولده قبل حمل الجنازه؟

و لماذا الاستيلاء علي الحجرات، و غلق أبوابها، و الختم عليها؟

و لماذا تفتيش الجواري و المعاينة الطبية التي قامت بها النساء لمعرفة الحامل من الجواري؟

و لماذا حبسوا الجارية - التي ادعت انها حامل - في حجرة، و وكلوا بها نحرير الخادم و أصحابه، و نسوة معهم؟

و لماذا كشفوا عن وجه الامام - قبل دفنه - للناس؟

فهل كانوا يتهمون أنفسهم، أو كانوا متهمين عند الناس، فحاولوا دفع التهمة بهذا الاسلوب؟ و لماذا و لماذا؟؟!!

أليست هذه المحاولات و التدابير تدل علي نواياهم السيئة؟

أليست هذه الأعمال أدلة اثبات علي دس السم للامام العسكري؟

أليست هذه التحريات الدقيقة تدل علي قصدهم قتل ابن الامام العسكري؟

و لماذا وضعوا الجنين تحت المراقبة حتي يولد، ثم يصدر الحكم في حقه؟

هذه اسئلة نحيل - الاجابة عليها - علي القاري ء النبيه الذكي الحر، حتي يحكم فيها.

روي محمد بن الحسن الصفار بسنده عن محمد بن أبي الزعفران عن ام أبي محمد (عليه السلام) قالت:

قال [الامام] لي يوما: تصيبني سنة ستين حزازة [9] ، أخاف أن انكب فيها نكبة [10] ، فان سلمت منها فالي سنة و سنتين. (الي سنة سبعين خ ل).

قالت: فأظهرت الجزع و بكيت، فقال: لابد من وقوع أمر الله، فلا تجزعي.



[ صفحه 294]



فلما كان أيام صفر أخذها المقيم و المقعد، و جعلت تقوم و تقعد، و تخرج في الأحايين الي الجبل، و تجسس الأخبار حتي ورد عليها الخبر [11] .

أقول: أخذها المقيم و المقعد أي الحزن الذي يقيمها و يقعدها، أي سلب الحزن منها القرار و الاستقرار، فما كانت تستقر بالجلوس و لا بالقيام من شدة القلق و الحزن علي ولدها: الامام العسكري.

و في (عيون المعجزات)... «ثم أمر أبومحمد (عليه السلام) والدته بالحج في سنة تسع و خمسين و مائتين و عرفها ما يناله في سنة ستين، ثم سلم الاسم الأعظم، و المواريث و السلاح الي القائم الصاحب (عليه السلام).

وخرجت ام أبي محمد الي مكة، و قبض (عليه السلام) في شهر ربيع الآخر (الأول صح) سنة ستين و مائتين،... الي آخره.



[ صفحه 295]




پاورقي

[1] الغيل: موضع الأسد.

[2] مناقب ابن شهرآشوب ج 4 / 430.

[3] الي هنا انتهي كلام عبيدالله بن الخاقان، و ما ياتي كلام ابنه أحمد.

[4] أي كلمات التبجيل التي سمعها من أبيه عبيدالله.

[5] ما بين القوسين من كتاب (الغيبة) للطوسي / 122.

[6] بعد الشهرة العالمية التي حصلت للامام الرضا (عليه السلام) و ضربت الدنانير و الدراهم باسمه، و كان الخطباء يذكرونه في خطبة الجمعة و العيدين، و كان الناس يسمون الامام الجواد ب (ابن الرضا) و هكذا انتقل هذا اللقب أو الكنية الي الامام الهادي ثم الامام العسكري (عليهماالسلام).

[7] زبره: زجره.

[8] الكافي ج 1 / 503.

[9] الحزازة، وجع في القلب من غيظ و نحوه / مجمع البحرين و في نسخة: حرارة.

[10] النكبة - بفتح النون -: ما يصيب الانسان من الحوادث. و بضم النون: الجراحة.

[11] اثبات الهداة ج 3 / 416.