ما بعد وفاة الامام العسكري
لقد ذكرنا - في فصل ولادة الامام المهدي (عليه السلام) - بعض الظروف التي فرضت علي الامام العسكري (عليه السلام) أن يكتم ولادة ولده الا عن الموثوقين من شيعته، و هكذا لم تساعده الظروف الصعبة التي مر بها لينص علي امامة ولده الامام المهدي (عليه السلام) بصورة علنية، بل اكتفي باخبار خواص الثقاة من الشيعة؛
و من الطبيعي: ان هذا السر بقي مكتوما، و معلوما في نطاق ضيق، و هذا الأمر سبب مضاعفات كثيرة عند ضعفاء العقيدة و الايمان من الشيعة في بعض الأقطار، الذين لم يتأكدوا من ولادة الامام المهدي، و لم يتحقق عندهم صدور النص عليه؛
فاختلق أفراد منهم: كل فرد منهم فكرة، و تبعه اناس علي فكرته، فتكونت مذاهب عديدة، و آراء مختلفة حول الامام العسكري و ابنه الامام المهدي (عليهماالسلام) و تحقق كلام الامام العسكري حيث قال: «في سنة مائتين و ستين تفترق شيعتي».
و مما زاد في الطين بلة ان جعفر [الكذاب] ادعي الامامة، فتبعه شرذمة من الناس لأهداف يعلمها الله، و خفيت الحقائق، و التبست الامور علي الكثيرين من الشيعة الذين لم تساعدهم الظروف لاكتساب المعلومات من المنابع الصافية
[ صفحه 299]
المعتمد عليها؛
و طائفة قالت بحياة الامام العسكري و انه لم يمت، و أنه القائم الذي أخبر به النبي و الأئمة (عليهم السلام) و هولاء هم الفطحية الذين اعتقدوا بامامة عبدالله الأفطح ابن الامام الصادق (عليه السلام) في ضمن الأئمة الاثني عشر، و تم العدد - عندهم - بالامام العسكري.
و طائفة قالت: ان الامام العسكري لا عقب له، و انكروا وجود الامام المهدي.
و طائفة قالت بالفترة، و معناها خلو الزمان من الامام، و قد وردت كلمة (الفترة) في القرآن، و معناها: انقطاع النبوة، و المقصود من (الفترة) في كلام تلك الطائفة هو انقطاع الامامة.
و طائفة قالت: ان الامام هو السيد محمد الذي توفي في حياة أبيه: الامام الهادي ثم انتقلت الامامة الي ولده، و جماعة تاهت، و جماعة تحيرت.
أساطير و اباطيل - بغير حساب - انتشرت في الأوساط الشيعية، ففرقتهم تفريقا.
ولكن الأكثرية من الشيعة ثبتت علي امامة المهدي (عليه السلام) و هم الذين سمعوا أو بلغهم النص من الامام العسكري علي ولده الامام المهدي (عليهماالسلام).
أما تلك المذاهب فانقرضت بموت أصحابها، و تبخرت بمرور الزمان، و حتي أتباع جعفر أيضا تفرقوا عنه، و بقي وحده في الساحة، و اخيرا كان يعيش حياة الاعتزال.
لأن تلك الآراء و الأفكار المستحدثة كانت علي خلاف المقاييس الشرعية الثابتة عند الشيعة، و لم يقدر لها البقاء و الدوام؛
و ليس معني ذلك أن المشكلة انتهت نهائيا بالسرعة، بل حدثت قضايا و مشاكل موسفة؛
[ صفحه 300]
فقد ذكر الشيخ المفيد في (الارشاد) في ذكر وفاة الامام العسكري (عليه السلام):
«و خلف [الامام العسكري] ابنه المنتظر لدولة الحق، و قد كان [العسكري] قد أخفي مولده [الامام المهدي] و ستر أمره لصعوبة الوقت، و شدة طلب سلطان الزمان له، و اجتهاده في البحث عن أمره؛
و لما شاع من مذهب الشيعة الامامية فيه، و عرف من انتظارهم له، فلم بظهر ولده (عليه السلام) في حياته [العسكري] و لا عرفه الجمهور بعد وفاته [العسكري] و تولي جعفر [الكذاب] بن علي - أخو أبي محمد (عليه السلام) - اخذ تركته، و سعي في حبس جواري أبي محمد (عليه السلام) و اعتقال حلائله، و شنع علي أصحابه انتظارهم ولده، و قطعهم [اعتقادهم] بوجوده و القول بامامته؛
و أغري بالقوم [الشيعة] حتي أخافهم و شردهم، و جري علي مخلفي أبي محمد (عليه السلام) بسبب ذلك كل عظيمة: من اعتقال و حبس و تهديد و تصغير و استخفاف و ذل؛
و لم يظفر السلطان منهم بطائل، و حاز جعفر - ظاهرا - تركة أبي محمد (عليه السلام) و اجتهد في القيام عند الشيعة مقامه [العسكري] و لم يقبل أحد منهم ذلك. و لا اعتقده فيه!
فصار الي سلطان الوقت يلتمس مرتبة أخيه، و بذل مالا جليلا، و تقرب بكل ما ظن انه يتقرب به، فلم ينتفع بشي ء من ذلك... الي آخره» [1] .
و يستفاد من الخبر الآتي ان هذه المشكلة العقائدية بقيت مدة من الزمان عقدة لا تنحل، و السبب في ذلك: فقدان المرجع الذي يرجع الشيعة اليه لتعرف الحقيقة، لأن الامام العسكري (عليه السلام) فارق الحياة، و الامام المهدي (عليه السلام) غاب عن الأبصار، و علماء الطائفة - و هم وكلاء الامام العسكري (عليه السلام)
[ صفحه 301]
و ثقاة أصحابه - اشتدت عليهم الرقابة، و مرت بهم ظروف صعبة، و فرضت التقية عليهم السكوت، ريثما ينقشع السحاب، و تنجلي الغبرة؛
و كانت السيدة ام الامام العسكري قد رجعت من الحج بعد وفاة ولدها الامام، و نزلت في دار زوجها الامام الهادي، و ولدها: الامام العسكري (عليهماالسلام) و كانوا يعبرون عنها ب (الجدة) لأنها جدة الامام المهدي (عليه السلام).
و السيدة حكيمة عمة الامام العسكري (عليه السلام) أيضا كانت لها مكانة مرموقة، و منزلة علمية عند الشيعة، و قد استطاع بعض الشيعة أن يزورها للتعرف عن الحقيقة، و سماع الخبر القطعي حول الموضوع، و اليك الحديث:
روي الشيخ الصدوق في (اكمال الدين) بسنده عن أحمد بن ابراهيم قال:
دخلت علي حكيمة بنت محمد [الجواد] ابن علي الرضا، اخت أبي الحسن [الهادي] صاحب العسكر (عليه السلام) في سنة اثنتين و ستين و مائتين، فكلمتها من وراء حجاب، و سألتها عن دينها [الامامة] فسمت لي من تأتم به، ثم قالت: «و الحجة ابن الحسن بن علي» (فلان ابن الحسن خ ل) فسمته؛
فقلت لها: جعلني الله فداك! معاينة أو خبرا؟
فقالت: خبرا عن أبي محمد (عليه السلام) كتب به الي امه؛
فقلت لها: فأين الولد (المولود خ ل)؟ فقالت: مستور.
فقلت: الي من تفزع الشيعة؟
فقالت: الي الجدة: ام أبي محمد (عليه السلام).
فقلت: أقتدي بمن وصيته الي امرأة؟
فقالت: اقتداء بالحسين بن علي (عليهماالسلام) فان الحسين بن علي أوصي الي اخته زينب بنت علي، سترا (تسترا) علي علي بن الحسين (عليهماالسلام).
ثم قالت: انكم قوم أصحاب أخبار، أما رويتم ان التاسع من ولد الحسين (عليه السلام)
[ صفحه 302]
يقسم ميراثه و هو في الحياة؟ [2] .
و روي الصدوق - ايضا - بسنده عن محمد بن الطهوي [3] قال:
قصدت حكيمة بنت محمد [الجواد] (عليه السلام)، بعد مضي [وفاة] أبي محمد (عليه السلام) أسألها عن الحجة، و ما قد اختلف فيه الناس من الحيرة التي هم فيها؟
فقالت لي: اجلس. فجلست، ثم قالت:
«يا محمد! ان الله (تبارك و تعالي) لا يخلي الأرض من حجة ناطقة أو صامتة، و لم يجعلها في أخوين بعد الحسن و الحسين (عليهماالسلام) تفضيلا للحسن و الحسين، و تنزيها لهما أن يكون في الأرض عديلهما (عديل لهما خ ل) [4] .
الا أن الله (تبارك و تعالي) خص ولد الحسين بالفضل علي ولد الحسن (عليهماالسلام) كما خص ولد هارون علي ولد موسي [بن عمران] (عليه السلام) و ان كان موسي حجة علي هارون، و الفضل لولده الي يوم القيامة؛
و لابد للامة من حيرة يرتاب فيها المبطلون، و يخلص فيها المحقون، كيلا يكون للخلق علي الله حجة، و ان الحيرة - لابد - واقعة بعد مضي [وفاة] أبي محمد الحسن (عليه السلام).
فقلت: يا مولاتي! هل كان للحسين (عليه السلام) ولد؟
فتبسمت ثم قالت: «اذا لم يكن للحسن (عليه السلام) عقب فمن الحجة من بعده؟ و قد أخبرتك انه لا امامة لاخوين بعد الحسن و الحسين (عليهماالسلام)... و قالت - في آخر كلامها -:
[ صفحه 303]
«فمضي أبومحمد (عليه السلام) بعد ذلك بأيام قلائل، و افترق الناس كما تري؛
و والله اني لأراه [الامام المهدي] صباحا و مساء، و انه لينبئني عما تسالون عنه فاخبركم!!
و والله اني لاريد أن أسأله عن الشي ء، فيبدأني به، و انه ليرد علي الأمر، فيخرج الي منه جوابه من ساعته من غير مسألتي؛
و قد أخبرني - البارحة - بمجيئك الي، و أمرني أن اخبرك بالحق».
قال محمد بن عبدالله [راوي الحديث]: فوالله لقد اخبرتني حكيمة بأشياء لم يطلع عليها أحد الا الله (عزوجل) فعلمت أن ذلك صدق و عدل من الله (عزوجل) لأن الله (عزوجل) قد أطلعه (الامام المهدي) علي ما لم يطلع عليه أحدا من خلقه» [5] .
أقول: بعد المقارنة بين هذين الحديثين ينكشف لنا ان راوي الحديث الأول لم يكن بتلك المنزلة من الثقة و الاعتماد، و لهذا لما سألها: معاينة أو خبرا؟ قالت: خبرا. و لم تخبره بالمعاينة، و أما الراوي الآخر للحديث فكان يليق بأن تخبره السيدة حكيمة بهذه الخصوصيات، و لقاءاتها بالامام المهدي (عليه السلام) و اتصالها الدائم به.
[ صفحه 304]
پاورقي
[1] الارشاد / 345.
[2] اكمال الدين / 501 و 507، باب 45، حديث 27 و 36.
[3] و في نسخة: المطهري أو الطهري و غيرهما.
[4] لعل المقصود من كلامها: «و لم يجعلها في اخوين» ابطال امامة جعفر الكذاب الذي ادعي الامامة، و هو اخو الامام العسكري.
[5] اكمال الدين / 426، باب 42، حديث 2.