بازگشت

تقديم


1- الامام أبومحمد الحسن العسكري هو الامام الحادي عشر من أئمة أهل البيت عليهم لاسلام الذين حملوا رسالة الاسلام، و تبنوا أهداف الدين الحنيف، و وهبوا حياتهم في سبيله، و وطنوا أنفسهم لمواجهة الكوارث و تحدي الصعاب و الشدائد من أجل نشر قيمه و أهدافه، فما أعظم عائداتهم عليه، و ما أكثر ألطافهم و أياديهم علي المسلمين.

لقد كان هذا الامام العظيم فذا من أفذاذ العقل البشري بمواهبه و طاقاته الثقافية و العلمية، كما كان بطلا من أبطال التاريخ، و ذلك بصموده أمام الأحداث، و بارادته الصلبة تجاه الحكم العباسي المنحرف، فقد احتج الامام علي نظمه الفاسدة، و سعي الي تحقيق الحق و العدل بين الناس.

2- أما مثل الامام أبومحمد عليه السلام و نزعاته، فهي تضارع مثل آبائه و نزعاتهم، فقد تشابهوا و اتحدوا جميعا في بلوغ أسمي مراتب الفضائل و الكمال.

لقد كان هذا الامام العظيم وحيد عصره في وفرة علومه. يقول المؤرخون: «انه كان اعلم الناس بشؤون الدين و أحكام الشريعة، و ان جميع علماء عصره كانوا محتاجين الي الانتهال من نمير علومه».

و من مثله البارزة انه كان أعبد الناس، و أشدهم حريجة في الدين، و قد آثر طاعة الله علي كل شي ء، و كذلك كان أحلم الناس، و أكظمهم للغيظ، و قد قابل من أساء اليه



[ صفحه 10]



بالصفح و العفو عنه.

و ظاهرة اخري من نزعاته: أنه كان من أجود الناس، و أنداهم كفا، و أكثرهم اسعافا للفقراء و اعانة للمحوجين، و قد قام بدور مهم في انعاش الفقراء، فقد نصب له وكلاء في كثير من مناطق العالم الاسلامي، و عهد اليهم بتوزيع الحقوق التي ترد اليه علي فقراء المسلمين و ضعفائهم مما أوجب انعاشهم و انقاذهم من البؤس و الحرمان في حين أنه كان يعيش عيشة الفقراء، فلم يحفل بأي شي ء من متع الدنيا و ملاذها، شأنه شأن آبائه الذين أعرضوا عن الدنيا، و اتجهوا صوب الله و الدار الآخرة.

3- و يحدثنا الرواة عن اجماع الناس - في عصر الامام - علي تعظيمه، و الاعتراف له بالفضل و التفوق علي جميع العلويين و العباسيين.

و من مظاهر ذلك التعظيم أنه اذا جاء الي البلاط العباسي لم يبق أحد من عظماء الحاضرين الا قام له تكريما و انحني له تعظيما، فالوزراء و الكتاب و قادة الجيش، و جميع أعضاء الدولة و أجهزتها كانوا يقابلونه بمزيد من التكريم و التعظيم، و كان الفتح بن خاقان، و هو رئيس وزراء دولة المتوكل، يقدم الامام و يعترف له بالفضل و التفوق علي جميع الشخصيات العلمية البارزة في عصره.

4- و كان من الطبيعي تقدير الامة بجميع طبقاتها للامام أبي محمد عليه السلام و تعظيمها له، فقد وقفت علي هديه و صلاحه، و عزوفه عن الدنيا، و اخلاصه للحق، و تفانيه في طاعة الله و عبادته، و استبان لها أنه بقية الله في أرضه، و الممثل الوحيد لجده الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله، و بالاضافة الي ذلك فقد تبني الامام القضايا المصيرية للعالم الاسلامي، و نادي بحقوق المسلمين، و نعي علي حكام عصره ظلمهم للرعية، و استهانتهم بحقوقها، فلذا أجمعت الامة علي تعظيمه و الولاء له، و الاعتراف بقيادته الهامة لها.



[ صفحه 11]



5- و شق علي ملوك بني العباس ما يرونه و يسمعونه من تعظيم الجماهير للامام عليه السلام، و ذهاب جمهرة كبيرة من المسلمين الي امامته، و ايمانها المطلق بأنه أحق بالخلافة و الامامة من بني العباس الذين لم يتمتعوا بأي صفة أو موهبة تؤهلهم لمركز الخلافة الاسلامية، و قد نخر الحقد علي الامام قلوب الحكام العباسيين، فاتخذوا ضده الاجراءات القاسية التي كان منها: فرض الحصار الاقتصادي علي الامام، فضيقوا عليه غاية التضييق، كما فرضوا عليه الاقامة الجبرية في سامراء، و أحاطوه بقوي مكثفة من المباحث و الأمن تحصي عليه أنفاسه، و تسجل كل من يتصل به، و تنزل به أقسي العقوبات، و فيما اعتقد أن هذا هو السر في قلة الرواة عنه، كما هو السر في قلة ما اثر عنه من الحكم و الآداب و أحكام الشريعة الغراء.

6- و كان هناك عامل آخر شديد الحساسية قد دعا العباسيين الي مراقبة الامام تلك المراقبة الصارمة، و هو أنه أبوالامام محمد المهدي عليه السلام المصلح العام للبشرية كلها، و المحطم لجميع أنواع الظلم و أفانين الاستبداد، و قد بشر به الرسول الأعظم و أوصياؤه العظام، و أحاطوا الامة علما بأنه هو الذي ينشر العدل السياسي و الاجتماعي في الأرض، و قد آمن بذلك المسلمون علي اختلاف نزعاتهم و ميولهم و اتجاهاتهم، ففزع العباسيون من ذلك، و اعتقدوا بأنه هو الذي سيزيل ملكهم، فبثوا العيون علي الامام للتعرف علي ولده، كما بثوا العيون من النساء علي من تلد من نسائه لالقاء القبض عليه، ولكن الله تعالي أخفي عليهم أمر المهدي لجهة الحمل به و ولادته، كما أخفي ولادة نبيه موسي بن عمران الذي قضي علي فرعون زمانه، و أطاح بحكومته المستبدة التي استذلت الشعب المصري.

7- و عني هذا الكتاب بدراسة عصر الامام، و ما انتشر فيه من الأحداث، فان دراسة العصر مبحث من البحوث المنهجية التي لا غني للباحث عنها؛ لأنها تلقي الأضواء علي الحياة الفكرية و الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية في ذلك



[ صفحه 12]



العصر، و من الطبيعي ان لذلك تأثيرا مباشرا علي حياة الشخص، كما أنها تكشف عن أبعاد حياته، و مدي تأثره بالأحداث التي رافقته.

8- و يعرض هذا الكتاب الي تصوير الحياة الاقتصادية في ذلك العصر، فانها لم تكن سليمة و لا مستقرة، و انما كانت مشلولة و مضطربة، فلم تحقق الحكومات العباسية التي عاصرها الامام الرخاء بين الناس، و لم توفر لهم الحياة الكريمة التي يريدها الاسلام، فقد اختص بالثراء الفاحش أبناء الاسرة العباسية، و كبار رجال الدولة، و سائر عملائهم، فقد أسرفوا في الترف و البذخ، و استأثروا بطيبات الأرض و خيراتها، بينما كانت الأكثرية الساحقة من الشعوب الاسلامية تعاني الفقر و الحرمان، كما كانت تعاني أقسي الآلام في تسديد المتوجب عليها من الصدقات و الخراج، و ارغامها علي الذل و الهوان.

9- و قدمنا في هذا الكتاب دراسة عن ملوك عصره، الذين كان معظمهم من التافهين، فقد استسلموا للشهوات، و شغفوا بالجواري الحسان، و القيان الملاح، و كانت لياليهم الحمراء تعج بصنوف من الشهوات و المنكرات، و قد تركوا ما أمر الله به ولاة المسلمين من العمل علي تطوير الحياة العامة، و تقديم الخدمات اللازمة للشعوب، و ايجاد الفرص المتكافئة لجميع المواطنين، و لم يعمل أكثر ملوك بني العباس أي شي ء من ذلك، و انما اتخذوا مال الله دولا، و عباد الله خولا، وساسوا الامة سياسة بطش و عنف، فسلطوا عليها الأتراك الذين لم تكن لهم أية دراية و خبرة في الشؤون السياسية و الادارية، فأغرقوا البلاد في المحن و الفتن، و استبدوا في الحكم بين الناس.

10- ان الواجب يقضي علي كل باحث في الشؤون التاريخية أن ينظر بدقة، و يتفحص بامعان في شؤون التاريخ. فقد خلط بكثير من الموضوعات؛ اذ



[ صفحه 13]



عمد بعض المؤرخين الي وضع تغطية لبعض الملوك و الحكام، و اضفاء الألقاب الكريمة، و النعوت الحسنة عليهم، في حين أنهم كانوا من المحترفين الذين أغرقوا البلاد في الظلم و الفساد، و سخروا اقتصاد الامة لشهواتهم و ملاذهم، و أشاعوا الفقر و البؤس في الأوساط الشعبية، فليس من الأمانة، و لا من الحق أن ينظر الي هولاء نظرة تقديس و تعظيم، و يمنحون الثقة العامة لجماهير الشعب؛ اذ من الضرورة الملحة دراسة التاريخ الاسلامي دراسة واعية و موضوعية تقضي بالتجرد من كل نزعة تقليدية، فعلي الكاتب ألا يتحيز و يتعصب، و أن يكون رائده الحق و خدمة هذه الامة.

11- و تعرضنا في هذا الكتاب لترجمة كوكبة من الفقهاء و العلماء ممن رووا عن الامام أبي محمد عليه السلام، و أخذوا عنه بعض علومه و معارفه، و كان ذلك ضروريا - فيما أحسب - لأنه من متممات البحث عن شخصيته الكريمة، فان ذلك يكشف عن مدي العلاقة فيما بين الطرفين في ذلك الوقت الرهيب الذي كان شديد الحساسية.

فقد وضعت عليه الحكومة العباسية الرقابة الشديدة، و نكلت بكل من يتصل به من الفقهاء و العلماء، فكان اتصالهم به مرهقا و عسيرا، و كان لذلك تأثير علي الامام، فقد اترعت نفسه بالآلام، فلا نكبة أشد و لا آلم للعباقرة و الموهوبين من حجبهم عن الادلاء بعلومهم و معارفهم، و صدهم عن خلق أجواء علمية تحمل أفكارهم و آراءهم من بعدهم.

12- و ليس من الوفاء في شي ء، بل و لا من الخدمة للعلم، و لا من التقدير لحملته، أن لا اشيد بالجهود الخلافة التلي بذلها سماحة الحجة العلامة الكبير أخي الشيخ هادي شريف القرشي [1] ، من مراجعة بعض المصادر التي تخص



[ صفحه 14]



الموضوع، و بالاضافة الي ارشادته القيمة، و توجيهاته المفيدة، سائلا الله تعالي أن يجزيه عن ذلك خير ما يجزي المخلصين من عباده.

انه تعالي ولي ذلك و القادر عليه

مكتبة الامام الحسن العامة

النجف الأشرف

باقر شريف القرشي

1409 / 1988



[ صفحه 17]




پاورقي

[1] انتقل سماحة الحجة الشيخ هادي الي جنة المأوي سنة 1995 م، تغمده الله برحمته.