بازگشت

رسالته الي اسحاق النيسابوري


و أرسل الامام أبومحمد عليه السلام الي اسحاق بن اسماعيل النيسابوري هذه الرسالة، و هي من غرر الرسائل، و قد استهدفت الوعظ و الاصلاح الشامل، و هذا نصها:

«سترنا الله و اياك بستره، و تولاك في جميع امورك بصنعه، قد فهمت كتابك رحمك الله، و نحن بحمد الله و نعمته أهل بيت نرق علي موالينا، و نسر بتتابع احسان الله اليهم، و فضله لديهم، و نعتد بكل نعمة ينعمها الله عزوجل عليهم، فأتم الله عليكم بالحق، و من كان مثلك ممن قد رحمه الله، و بصره بصيرتك، و نزع عن الباطل و لم يعم في طغيانه بعمه.

فان تمام النعمة دخولك الجنة، و ليس من نعمة و ان جل أمرها، و عظم خطرها، الا و الحمد لله تقدست أسماؤه عليها يؤدي شكرها.



[ صفحه 96]



و أنا أقول: الحمدلله مثل ما حمدالله به حامد الي أبد الأبد، بما من عليك من نعمته، و نجاك من السهلكة، و سهل سبيلك علي العقبة، و أيم الله انها لعقبة كؤود، شديد أمرها، صعب مسلكها، عظيم بلاؤها، طويل عذابها، قديم في الزبر الاولي ذكرها.

و لقد كانت منكم أمور في أيام الماضي الي أن مضي لسبيله، صلي الله علي روحه، و في أيامي هذه كنتم فيها غير محمودي الشأن، و لا مسددي التوفيق.

و اعلم يقينا يا اسحاق أن من خرج من هذه الدنيا أعمي فهو في الآخرة أعمي و أضل سبيلا، انها - يابن اسماعيل - ليس تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور [1] .

و ذلك قول الله عزوجل في محكم كتابه للظالم: (رب لم حشرتني أعمي و قد كنت بصيرا) قال الله عزوجل: (قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها و كذلك اليوم تنسي) [2] .

وأي آية - يا اسحاق - أعظم من حجة الله عزوجل علي خلقه، و أمينه في بلاده، و شاهده علي عباده، من بعد من سلف من آبائه الأولين



[ صفحه 97]



النبيين، و آبائه الآخرين من الوصيين، عليهم أجمعين رحمة الله و بركاته.

فأين يتاه بكم؟ و أين تذهبون كالأنعام علي وجوهكم؟ عن الحق تصدفون، و بالباطل تؤمنون، و بنعمة الله تكفرون أو تكذبون؟ فمن يؤمن ببعض الكتاب و يكفر ببعض، فما جزاء من يفعل ذلك منكم و من غيركم الا خزي في الحياة الدنيا الفانية، و طول عذاب الآخرة الباقية [3] ، و ذلك والله الخزي العظيم [4] .

ان الله بفضله و منه لما فرض عليكم الفرائض لم يفرض ذلك عليكم لحاجة منه اليكم، بل رحمة منه لا اله الا هو عليكم ليميز الخبيث من الطيب، و ليبتلي ما في صدوركم، و ليمحص ما في قلوبكم [5] ، و لتألفوا الي رحمته، و لتتفاضل منازلكم في جنته، ففرض عليكم الحج و العمرة، و اقام الصلاة، و ايتاء الزكاة، و الصوم، و الولاية، و كفا بهم لكم



[ صفحه 98]



بابا ليفتحوا أبواب الفرائض، و مفتاحا الي سبيله، و لولا محمد صلي الله عليه و آله، و الأوصياء من بعده، لكنتم حياري كالبهائم، لا تعرفون فرضا من الفرائض، و هل يدخل قرية الا من بابها.

فلما من عليكم باقامة الأولياء بعد نبيه، قال الله عزوجل لنبيه صلي الله عليه و آله: (اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الاسلام دينا) [6] .

و فرض عليكم لأوليائه حقوقا أمركم بأدائها اليهم ليحل لكم ما وراء ظهوركم من أزواجكم و أموالكم و مأكلكم و مشربكم، و يعرفكم بذلك النماء و البركة و الثروة، و ليعلم من يطيعه منكم بالغيب. قال الله عزوجل: (قل لا أسألكم عليه أجرا الا المودة في القربي) [7] .

و اعلموا أن (من يبخل فانما يبخل عن نفسه و الله هو الغني و أنتم الفقراء) [8] لا اله الا هو، و لقد طالت المخاطبة فيما بيننا و بينكم فيها هو لكم و عليكم لما أريتكم مني خطا، و لا سمعتم مني حرفا من بعد الماضي عليه السلام.

و أنتم في غفلة عما اليه معادكم، و من بعد الثاني رسولي و ما ناله



[ صفحه 99]



منكم حين أكرمه الله بمصيره اليكم، و من بعد اقامتي لكم ابراهيم بن عبدة، وفقه الله لمرضاته، و أعانه علي طاعته، و كتابه الذي حمله محمد بن موسي النيسابوري، و الله المستعان علي كل حال، و اني أراكم مفرطين في جنب الله فتكونون من الخاسرين.

فبعدا و سحقا لمن رغب من طاعة الله، و لم يقبل مواعظ من أوليائه، و قد أمركم الله عزوجل بطاعته، لا اله الا هو، و طاعة رسوله صلي الله عليه و آله، و بطاعة اولي الأمر عليهم السلام، فرحم الله ضعفكم و قلة صبركم عما أمامكم، فما أغر الانسان بربه الكريم [9] ، و استجاب الله تعالي دعائي فيكم، و أصلح أموركم علي يدي.

فقد قال الله جل جلاله: (يوم ندعوا كل أناس بامامهم) [10] .

و قال جل جلاله: (و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء علي الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا) [11] .

و قال الله جل جلاله: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر) [12] .



[ صفحه 100]



فما أحب أن يدعو الله جل جلاله بي، و لا بمن هو في أيامي الا حسب رقتي عليكم، و ما انطوي لضكم عليه من حب بلوغ الأمل في الدارين جميعا، و الكينونة معنا في الدنيا و الآخرة.

فقد - يا اسحاق، يرحمك الله و يرحم من هو وراءك - بينت لك بيانا، و فسرت لك تفسيرا، و فعلت بكم من لم يفهم هذا الأمر قط، و لم يدخل فيه طرفة عين، و لو فهمت الصم الصلاب بعض ما في هذا الكتاب لتصدعت قلقا و خوفا من خشية الله، و رجوعا الي طاعة الله عزوجل.

فاعملوا من بعد ما شئتم، فسيري الله عملكم و رسوله و المؤمنون، ثم تردون الي عالم الغيب و الشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون [13] ، و العاقبة للمتقين، و الحمدلله رب العالمين» [14] .

و لابد لنا من وقفة قصيرة للنظر في أبعاد هذه الرسالة الشريفة، و بيان محتوياتها، و في ما يلي ذلك:

أولا: انها أظهرت سرور الأئمة الطاهرين و فرحهم بما يسديه الله تعالي الي شيعتهم من النعم و الألطاف.

ثانيا: ان من أعظم النعم و أجلها التي يتمناها الامام أبومحمد عليه السلام لشيعته هي



[ صفحه 101]



الفوز بالجنة و النجاة من النار، فان من فاز بذلك فقد ظفر بالخير العميم.

ثالثا: أعرب الامام عليه السلام عن حدوث فجوة بينه و بين اسحاق و جماعته، و لم يحدث ذلك في زمانه، و انما كان في زمان أبيه الامام الهادي عليه السلام، فقد ساءت العلاقات بينه و بين القوم، و لم تكشف المصادر التي بأيدينا أسباب ذلك، و أكبر الظن أن ذلك يستند الي ما يلي:

1- اندساس الدجالين و المخربين و ذوي الأطماع بين صفوف القوم، و افساد عقائدهم، مما نجم منه التشكيك في الأئمة عليهم السلام، و الرد عليهم.

2- حجب الأئمة عليهم السلام من قبل العباسيين، و قطع أي اتصال بينهم و بين شيعتهم، الأمر الذي أدي الي اشاعة بعض الأفكار المنحرفة في صفوف بعضهم، و لو كانوا علي اتصال بهم لما حدث أي شي ء من ذلك.

3- دس الحكومة العباسية بعض عملائها بهدف تفريق صفوف أتباع أئمة أهل البيت عليهم السلام، و العبث بمقدراتهم الفكرية و الاجتماعية، و ذلك للحط من شأنهم، و فل قواهم.

4- وثمة عامل آخر أدي الي شيوع الاضطراب العقائدي بين صفوف بعض الشيعة، و هو الحسد لبعض وكلاء الامامين عليهماالسلام الذين عهد اليهم يقبض الحقوق الشرعية، و صرفها علي الفقراء و المحرومين و سائر الجهات الاصلاحية، و قد منحوا بذلك التأييد المطلق، و الثقة الكاملة من قبل الامامين، و قد عز ذلك علي بعض الشخصيات البارزة الذين لم يظفروا بمثل ذلك، مما أدي الي حسدهم، و الحسد داء وبيل ألقي الناس في شر عظيم، و أخرجهم من النور الي الظلمات، فأخذوا يعيثون فسادا في صفوف الشيعة و يفسدون عليهم عقائدهم.

رابعا: نعي الامام عليه السلام علي المنحرفين عن الحق سلوكهم في المنعطفات، و بعدهم عن المسالك الواضحة التي تضمن لهم السلامة و النجاة، فقد ضلت



[ صفحه 102]



عقولهم، و عميت عيونهم، و انهم في يوم حشرهم سيحشرون عمي العيون، كما كانوا في دار الدنيا.

خامسا: ذكر الامام عليه السلام أن الله تعالي أقام الحجة علي عباده و ذلك ببعثه النبيين و المرسلين و الأوصياء، فقد بلغوا أوامر الله و نواهيه، و نشروا أحكامه، فلا عذر للعباد بعد ذلك في تقصيرهم و عدم طاعتهم.

سادسا: عرض الامام عليه السلام الي أن الله لما أقام الفرائض علي العباد، و ألزمهم بها لم يكن بحاجة اليها، و انما ليميز الخبيث من الطيب، و يمتحن العباد بها، فمن أطاع فقد نجا، و من خالف فقد غرق و هوي.

سابعا: و من بنود هذه الرسالة أن الله تعالي قد من علي هذه الامة بأن أرسل النبي محمدا صلي الله عليه و آله و الأوصياء من بعده بهدايته، و لولاهم لكانت هذه الامة تتيه في مساحات سحيقة من مجاهل هذه الحياة لا تعرف فرضا، و لا تفقه سنة، فما أعظم عائداتهم علي هذه الامة، بل و علي البشرية جمعاء.

ثامنا: ان الله تعالي فرض لآل النبي صلي الله عليه و آله علي المسلمين فريضة مالية، و هي الخمس، و هو تشريع اقتصادي أصيل، تزدهر به الحياة الفكرية و الدينية في الاسلام، و لولاه لما استمرت المرجعية العامة، و الهيئة العلمية عند الطائفة الامامية، التي هي امتداد مشرق لرسالة الأئمة الطاهرين عليهم السلام.. أما تفصيل الخمس، و فيما يجب، فقد عرضت لبيانه كتب الفقه الامامي.

و من الجدير بالذكر أن الامام أبامحمد عليه السلام قد بين في رسالته هذه أنه لا تحل الأزواج و الأموال، و المآكل و المشارب، من دون اخراج الخمس، و أكبر الظن أن القوم الذين عناهم الامام في رسالته ما كانوا يؤدون هذا الحق المفروض، الأمر الذي أوجب توتر العلاقات بينهم و بين الامام. و بهذا ينتهي بنا الحديث عن تحليل بعض محتويات هذه الرسالة.



[ صفحه 103]




پاورقي

[1] اشارة الي قوله تعالي: (و من كان في هذه أعمي فهو في الآخرة أعمي و أضل سبيلا) الاسراء 17: 72.

[2] طه 2:125 و 126.

[3] اشارة الي قوله تعالي: (أفتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم الا خزي في الحياة الدنيا و يوم القيامة يردون الي أشد العذاب) البقرة 2: 85.

[4] اشارة الي قوله تعالي: (أفتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم الا خزي في الحياة الدنيا و يوم القيامة يردون الي أشد العذاب و ما الله بغافل عما تعملون) البقرة 2: 85.

[5] اشارة الي قوله تعالي: (و ليبتلي الله ما في صدوركم و ليمحص ما في قلوبكم) آل عمران 3: 154.

[6] المائدة 5: 3.

[7] الشوري 42: 23.

[8] محمد صلي الله عليه و آله 47: 38.

[9] اشارة الي قوله تعالي: (يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم) الانفطار 82: 6.

[10] الاسراء 17: 71.

[11] البقرة 2: 143.

[12] آل عمران 3: 110.

[13] اشارة الي قوله تعالي: (فسيري الله عملكم رسوله و المؤمنون...) التوبة 9: 105.

[14] تحف العقول: 484 - 486. بحارالأنوار:78: 374 - 377. الكشي: 354 - 357.

و روي السيد محمد الجزائري استاذ العلامة المجلسي شطرا من هذه الرسالة في كتابه «جوامع الكلم»، و هو من مخطوطات مكتبة الامام أميرالمؤمنين عليه السلام، تسلسل 427.