بازگشت

هبة قرية من الفضة


و لنقرأ هذه القصة التي هي من عجائب العصر العباسي، و تمثل مدي استهتار اولئك الملوك بأموال الامة، فقد روي المؤرخون أنه صنعت قرية من فضة فيها كل ما في القري من بقر و غنم و جمال و جواميس و أشجار و نبات و مساحة، و قد صنع كل ذلك بأدق صنعة من الفضة، و انفق عليها الأموال الطائلة، و قد صنعت للخليفة المقتدر ليري كيف تكون القري.

و كان لام المقتدر خادمة تسمي (نظم)، و كانت بارعة ذكية، و قد استولت علي زمام الامور، و لها رفيق يسمي أبوالقاسم يوسف بن يحيي، فرفعته و قربته الي البلاط، و عرفته علي ام المقتدر، حتي صار من المقربين عندها، و عزم أبوالقاسم علي ختان ولده، فأعد وليمة كبيرة للختان، و أنفق علي ذلك ما لم يسمع أن فعل مثله من حواشي الخلفاء، و قد جاءته رفيقته (نظم) بما يحتاجه من الأموال و الثياب و الآنية، و سألتها ام المقتدر: هل بقي شي ء يريده؟

فقالت لها: نعم، فأمرتها بأن تحمل له ما يريده من القصر، فحملت له الأموال الكثيرة، و قالت له: هل بقي في نفسك شي ء؟

فقال لها: نعم، ولكن لا أجسر علي مسألته.

- و ما هو؟

- أشتهي اعارة القرية الفضية التي عملت لأميرالمؤمنين ليراها الناس في داري، و يشاهدوا ما لم يشاهدوا مثله، فيعلموا ما لي من الاختصاص و العناية.

فوجئت نظم، و قالت له: هذا شي ء عمله الخليفة لنفسه، و مقداره عظيم، و في هذه القرية مئات الآلاف من الدراهم، ولكني أسأل السيدة.

و لما جاء الليل أقبلت نظم فقال لها أبوالقاسم: ما الخبر؟



[ صفحه 221]



- كل ما تحب، جئتك بالقرية هدية لك لا عارية، مع صلة جزيلة من أميرالمؤمنين.

و سارع أبوالقاسم قائلا: ما الخبر؟

مضيت من عندك و أنا منكسرة القلب، فدخلت علي السيدة فقالت لي: من أين جئت؟

- من عند عبدك يوسف علي أني يختن أبناءه غدا.

- أراك منكسرة.

- ببقائك ما أنا منكسرة.

- ففي وجهك حديث.

- خير.

- بالله عليك ماذا؟

فأخبرتها بالأمر، فأمسكت ام المقتدر قليلا، ثم قالت: هذا شي ء عمله الخليفة لنفسه كيف يحسن أن يري في دار غيره، و كيف يحسن أن يقال أن الخليفة استعاره منه بعض خدمه، ثم استرده منه، و ليس يجوز أن أسأله هبتها له؛ لأني لا أدري ان كان قد ملها و شبع منها أو لا، فان كان قد ملها فقيمتها عليه هينة، و ان لم يملها لم أرض أن آخذها منه، و سأسبر ما عنده، و استدعت جارية فأمرتها أن تتعرف علي خبر الخليفة، فمضت و قالت لها: انه عند فلانة احدي جواريه - فأخذت نظم معها، و دخلت عليه، فقابلها بمزيد من التكريم و الاحترام، و قال لها: ليس هذا من أوقات تفضلك و زياراتك.

فالتفت الي نظم، و قالت لها: متي عزم يوسف علي ختان ولده؟

فقالت لها: غدا.



[ صفحه 222]



فقال المقتدر: ان كان يحتاج الي شي ء آخر أمرت به.

فقالت: انه مستكف و واع، ولكنه التمس شيئا ما استحسن خطابك فيه.

- ما هو؟

- انه يريد أن يشرف علي أهل المملكة، و يروا عنده ما لم ير في العالم مثله.

- ما هو؟

- أن تعيره القرية، فاذا رآها الناس ارتجعت.

فتبسم المقتدر و قال لامه: هذه والله طريفة يستعيرها خادم لنا، و تكونين أنت شفيعة، فأعيره ثم ارتجعه، هذا من عمل العوام لا الخلفاء، وهبت له القرية، فمري بحملها بجميع آلاتها اليه، و قد رأيت أن اشرفه بشي ء آخر يحمل اليه غدا جميع و صائفنا، و لا يطبخ لنا شي ء.

و أمرت السيدة بنقل القرية، فتملكها أبوالقاسم [1] .

و هذه القصة تكشف عن مدي تبذير أولئك الملوك بأموال المسلمين، و انفاقها بلا حساب علي رغبات نسائهم و جواريهم.


پاورقي

[1] بين الخلفاء و الخلعاء في العصر العباسي: 17 - 22، نقلا عن المنتظم / ابن الجوزي: 6: 72.