بؤس العامة
و كان من الطبيعي أن تعاني الأغلبية الساحقة من الشعوب الاسلامية البؤس و الحرمان بعد ما حرمت من خزينة الدولة، و أنفقت علي شهوات الملوك و الوزراء و أجهزة الاعلام، و قد شاع الفقر، و انتشر في جميع الأوساط، فقد رأي الأصمعي شاعرا متعلقا بأستار الكعبة و هو يقول:
يا رب اني سائل كما تري
مشتمل شملتين كما تري
و شيختي جالسة فيما تري
و البطن مني جائع كما تري
فما تري يا ربنا فيما تري [1] .
و شكا هذا الشاعر الي الله ما يعانيه هو و زوجته من ألم الجوع، فقد خوت بطناهما و عري جسداهما، و هو يطلب من الله النجدة و الثراء. و روي الأصمعي أيضا أنه رأي شاعرا متعلقا بأستار الكعبة، و هو ينشد:
[ صفحه 229]
أيا رب الناس و المن و الهدي
أمالي في هذا الأنام قسيم [2] .
أما تستحي مني و قد قمت عاريا
اناجيك يا ربي و أنت كريم
أترزق أبناء العلوج و قد عصوا
و تترك قرما [3] من قروم تميم [4] .
و نهش الفقر كبد هذا الشاعر البائس، فخرج من حدود الأدب و الايمان، فعاتب الله عتابا حارا، فاتهمه بأنه يرزق العلوج و يحرم سيدا من سادات بني تميم، و لم يعلم أن الله يرزق من يشاء من عباده بغير حساب.
و قد صور شعراء ذلك العصر من الذين حرموا من الاتصال بالدولة سوء الحالة الاقتصادية التي كانوا يعانونها.
يقول أبوفرعون الساسي:
وصبية مثل صغار الذر
سود الوجوه كسواد القدر
جاء الشتاء و هم بشر
بغير قمص و بغير أزر
تراهم بعد صلاة العصر
و بعضهم ملتصق بصدري
و بعضهم ملتصق بظهري
و بعضهم منحجر بحجري
اذا بكوا عللتهم بالفجر
حتي اذا لاح عمود الفجر
و لاحت الشمس خرجت أسري
عنهم و حلو باصول الجدر
كأنهم خنافس في جحر
هذا جميع قصتي و أمري
فارحم عيالي و تول أمري
فأنت أنت ثقتي و ذخري
[ صفحه 230]
كنيت نفسي كنية في شعري
أنا أبوالفقر و أم الفقر [5] .
و كأن هذا الشاعر البائس قد عاش في منطقة أصابها الجفاف، و لم تصلها أية اسعافات، و قد صور حالة صبيته الصغار بصورة مثيرة و مؤلمة، فقد اسودت وجوههم، و انعدمت نضارة الصبا منهم، و أقبل عليهم الشتاء و ليس عندهم قميص يتقون به من البرد، قد التصقوا بأبيهم يطلبون منه الغذاء لينقذهم من الجووع، و هو لا يجد سبيلا لاغاثتهم، و يتضرع الي الله أن يرحمه، و ينقذه من هذه المحنة الحازبة، و قد كني نفسه بأنه أبوالفقر و امه، فأي مأساة أفظع من هذه المأساة؟
و من الشعراء الذي عانوا الضيق و الحرمان عمرو بن الهدير، قال مصورا بؤسه:
وقفت فلا أدري الي أين أذهب
و أي امور بالعزيمة أركب
عجبت لأقدار علي تتابعت
بنحس فأفني طول عمري التعجب
و لما طلبت الرزق فانجذ حبله
و لم يصف لي من بحره العذب مشرب [6] .
خطبت الي الاعدام احدي بناته
لدفع الغني اياي اذ جئت أخطب
فزوجنيها ثم جاء جهازها
و فيه من الحرمان تخت و مشجب [7] .
[ صفحه 231]
فأولدتها الحرف النقي فما له
علي الأرض غيري والد حين ينسب [8] .
فلو تهت في البيداء و الليل مسبل
علي جناحيه لما لاح كوكب
ولو خفت شرا فاستترت بظلمة
لأقبل ضوء الشمس من حيث تغرب
ولو جاد انسان علي بدرهم
لرحت الي رحلي و في الكف عقرب
ولو يمطر الناس الدنانير لم يكن
بشي ء سوي الحصباء رأسي يحصب
ولو لمست كفاي عقدا منظما
من الدر أضحي و هو ودع مثقب
و ان يقترف ذنبا ببرقة مذنب
فان برأسي ذلك الذنب يعصب
الي أن يقول:
أمامي من الحرمان جيش عرمرم
و منه ورائي جحفل حين أركب [9] .
و صور الشاعر بهذه الأبيات ما كان يعانيه من الضياع و تعاسة الزمان و معاكسته في جميع الأحوال، و قد غرق بالجوع و الفقر في حين أن ذهب الأرض كان يذهب الي
[ صفحه 232]
المخنثين و العازفين و غيرهم من أصحاب اللهو و الفسق و الفجور.
و من الشعراء البائسين في ذلك العصر أبوالشمقمق، قال يصف فقره:
و لقد قلت حين أقفر بيتي
من جراب الدقيق و الفخاره
فأره قد تجنبن بيتي
عائذات منه بدار الاماره
و دعا بالرحيل ذبان بيتي
بين مقصوصة الي طياره
و أقام السنور في البيت حولا
ما يري في جوانب البيت فاره
ينفض الرأس فيه من شدة الجوع
و عيش فيه أذي و مراره
قلت لما رأيته ناكس الرأس
كئيبا في الجوف منه حراره
ويك صبرا فأنت من خير سنور
رأته عيناي قط بحاره
قال لا صبر لي و كيف مقامي
وسط بيت قفر كجوف الحماره [10] .
و حكت هذه الأبيات مدي الفقر الهائل - أعاذنا الله منه - الذي ألم بهذا الشاعر، فترك بيته صحراء موحشة لا طمع فيها للذباب و لا للفأر و السنور اذ ليس فيها أي طعام.
و من الشعراء البائسين في ذلك العصر اسماعيل بن ابراهيم المشهور بالحمدوني، قال يصف فقره:
من كان في الدنيا أخا ثروة
فنحن من نظارة الدنيا
نرمقها من كثب حسرة
كأننا لفظ بلا معني [11] .
أرأيتم كيف يصعد آهاته و حسراته حينما ينظر الي أهل الثراء، فقد عاد في الدنيا
[ صفحه 233]
كأن لا وجود له، فهو كلفظ لا معني له.
پاورقي
[1] المحاسن و المساوي ء: 585.
[2] القسيم: الحظ.
[3] القرم: السيد.
[4] المحاسن و المساوي ء: 585، مع ملاحظة اختلاف حركة الروي بين البيتين الأولين و الثالث.
[5] طبقات الشعراء: 377.
[6] انجذ حبله: أي انقطع حبله.
[7] المشجب: خشبات منصوبة توضع عليها الثياب.
[8] الحرف: الحرمان.
[9] العقد الفريد: 6: 216.
[10] حياة الحيوان: 5: 264.
[11] المحاسن و المساوئ: 277.