مداهمة دار الامام
و سعي بعض الأوغاد الي المتوكل، فقال له: ان عند الامام الهادي عليه السلام كتبا و سلاحا و أموالا، و لا يؤمن من قيامه بثورة مسلحة ضد حكومته، ففزع المتوكل، و أوعز الي جماعة من شرطته الأتراك بمداهمة دار الامام ليلا، و تفتيشها تفتيشا
[ صفحه 278]
دقيقا، و حمل الامام اليه بعد أن أحاطت الشرطة بدار الامام و طوقته، و هجموا عليه علي حين غفلة، فوجدوه في بيت مغلق، و عليه مدرعة من شعر، و ليس بينه و بين الأرض من بساط الا الرمل و الحصا [1] و هو مستقبل القبلة، يتلو قوله تعالي: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا و عملوا الصالحات سواء محياهم و مماتهم ساء ما يحكمون) [2] .
و حملوا الامام و هو بتلك الحالة التي تمثل زهد الأنبياء، و روحانية المرسلين، فادخل علي المتوكل و كان علي موائد الخمر سكران ثملا، و تناول الطاغية الخليع كأسا من الخمر فقدمه الي الامام، فصاح به و زجره، و قال له بنبرات تقطر غيظا قائلا: «والله ما خامر لحمي و دمي قط».
و قال المتوكل: أنشدني شعرا.
- انني قليل الرواية للشعر.
و أصر الطاغية علي رأيه قائلا: لا بد أن تنشدني.
و لم يجد الامام بدا من انشاده، فأنشده هذه الأبيات الحزينة التي أزالت السكر من رأس المتوكل و حولت انسه الي بكاء و حزن قائلا:
«باتوا علي قلل الأجبال تحرسهم
غلب الرجال فما أغنتهم القلل
و استنزلوا بعد عز عن معاقلهم
فاودعوا حفرا يا بئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد ما قبروا:
أين الأسرة و التيجان و الحلل؟
أين الوجوه التي كانت منعمة
من دونها تضرب الأستار و الكلل؟
فأفصح القبر عنهم حين ساء لهم:
تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
[ صفحه 279]
قد طالما أكلوا دهرا و ما شربوا
فأصبحوا بعد طول الأكل قد اكلوا
و طالما عمروا دورا لتحصنهم
ففارقوا الدور و الأهلين و انتقلوا
و طالما كنزوا الأموال و ادخروا
فخلفوها علي الأعداء و ارتحلوا
أضحت منازلهم قفرا معطلة
و ساكنوها الي الأحداث قد رحلوا [3] .
و كشفت هذه البادرة عن جهاد الامام عليه السلام و موقفه الجهادي المشرف، فلم يتهيب الطاغية، و لم يصانعه و يتزلف اليه، و انما راح يعظه، و يذكره الدار الآخرة، و يعرفه
[ صفحه 280]
بما يصير اليه من مفارقة هذه الحياة، فلا تدفع عنه جيوشه و لا سلطانه المنية اذا نزلت به، و أن بدنه الرقيق سوف يواري في التراب، و يكون طعمة للحشرات و الديدان.
و من المؤكد أن المتوكل لم تمر علي سمعه أمثال هذه المواعظ، فقد أترع سمعه بعزف المغنين و المغنيات، و قد وافته المنية و هو بين كؤوس الخمر و جوقات المغنين.
و علي أي حال، فقد شاهد الامام الزكي أبومحمد عليه السلام ما جري علي أبيه من صنوف الارهاق و التنكيل من قبل المتوكل الذي كان يتميز غيظا و غضبا علي الامام حينما سمع بتعظيم الجماهير و اكبارهم له، في حين أنه لم يظفر بشي ء من ذلك، و هو زعيم الدولة، و الحاكم المطلق في البلاد، و قد ذكرنا عرضا مفصلا لما جري علي الامام الهادي من قبل المتوكل في كتابنا (حياة الامام علي الهادي عليه السلام)، و لا حاجة الي ذكر ذلك.
پاورقي
[1] دائرة معارف القرن العشرين: 6: 437.
[2] الجاثية 45: 21.
[3] جاء في جوهرة الكلام: 152: ان هذه الأبيات وجدت مكتوبة علي قصر سيف بن ذي يزن الحميري و قبلها الأبيات التالية:
انظر ماذا تري أيها الرجل
و كن علي حذر من قبل تنتقل
و قدم الزاد من خير تسر به
فكل ساكن دار سوف يرتحل
و انظر الي معشر باتوا علي دعة
فأصبحوا في الثري رهنا بما عملوا
بنوا فلم ينفع البينان و ادخروا
مالا فم يغنهم لما انقضي الأجل
نزهة الجليس: راجع 2: 138. مرآةالجنان: 2: 160. تذكرة الخواص: 361. الاتحاف بحب الأشراف: 67.