بازگشت

النشأة وظروفها


نشأ الإمام أبو محمد (عليه السلام) في بيت الهداية ومركز الإمامة الكُبري، ذلك البيت الرفيع الذي أذهب الله عن أهله الرجس وطهّرهم تطهيراً. وقد وصف الشبراوي هذا البيت الذي ترعرع فيه هذا الإمام العظيم قائلاً:

فللّه درّ هذا البيت الشريف، والنسب الخضم المنيف، وناهيك به من فخار، وحسبُك فيه من علوّ مقدار، فهم جميعاً في كرم الأرومة وطِيب الجرثومة كأسنان المشط; متعادلون، ولسهام المجد مقتسمون، فياله من بيت عالي الرتبة سامي المحلة، فلقد طاول السماء عُلاً ونُبلاً، وسما علي الفرقدين منزلةً ومحلاًّ، واستغرق صفات الكمال فلا يستثني فيه بـ «غير» ولا بـ «إلاّ»، انتظم في المجد هؤلاء الأئمة انتظام اللآلي، وتناسقوا في الشرف فاستوي الأوّل والتالي، وكم اجتهد قوم في خفض منارهم، والله يرفعه، وركبوا الصعب والذلول في تشتيت شملهم والله يجمعه، وكم ضيّعوا من حقوقهم ما لا يهمله الله ولا يضيّعه» [1] .

لقد ظفر الإمام أبو محمد بأسمي صور التربية الرفيعة وهو يترعرع في بيت زكّاه الله وأعلي ذكره ورفع شأنه حيث (يسبّح له فيها بالغدو والآصال - رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله...) [2] ، ذلك البيت الذي رفع كلمة الله لتكون هي العليا في الأرض وقدّم القرابين الغالية في سبيل رسالة الله.

وقطع الإمام الزكي شوطاً من حياته مع أبيه الإمام الهادي (عليه السلام) لم يفارقه في حلّه وترحاله، وكان يري فيه صورة صادقة لمُثل جدّه الرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله)، كما كان يري فيه أبوه أنّه امتداد الرسالة والامامة فكان يوليه أكبر اهتمامه، ولقد أشاد الإمام الهادي (عليه السلام) بفضل ابنه الحسن العسكري قائلاً:

«أبو محمد ابني أصحّ آل محمد(صلي الله عليه وآله) غريزةً وأوثقهم حجة. وهو الأكبر من ولدي وهو الخلف وإليه تنتهي عري الإمامة وأحكامها» [3] ، والإمام الهادي بعيد عن المحاباة والاندفاع العاطفي مثله في ذلك آبائه المعصومين.

وقد لازم الإمام أبو محمد (عليه السلام) أباه طيلة عقدين من الزمن وهو يشاهد كل ما يجري عليه وعلي شيعته من صنوف الظلم والاعتداء. وانتقل الإمام العسكري (عليه السلام) مع والده إلي سرَّ من رأي (سامراء) حينما وُشي بالإمام الهادي (عليه السلام) عند المتوكل حيث كتب إليه عبد الله بن محمد بن داود الهاشمي: «يذكر أن قوماً يقولون إنه الإمام ـ أي علي الهادي (عليه السلام) ـ فأشخصه عن المدينة مع يحيي بن هرثمة حتي صار إلي بغداد، فلما كان بموضع يقال له الياسرية نزل هناك، وركب اسحاق بن إبراهيم لتلقّيه، فرأي تشوّق الناس إليه واجتماعهم لرؤيته، فأقام إلي الليل، ودخل به في الليل، فأقام ببغداد بعض تلك الليلة ثم نفذ إلي سرَّ من رأي» [4] .

ولقد أسرف المتوكّل العباسي في الجور والاعتداء علي الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام) ففرض عليه الاقامة الجبرية في سامرّاء وأحاط داره بالشرطة تحصي عليه أنفاسه وتمنع العلماء والفقهاء وشيعته من الاتصال به، وقد ضيّق المتوكّل علي الإمام في شؤونه الاقتصادية أيضاً، وكان يأمر بتفتيش داره بين حين وآخر، وحمله إليه بالكيفية التي هو فيها.

وكان من شدّة عداء المتوكّل لأهل البيت (عليهم السلام) أن منع رسميًّا من زيارة قبر الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) بكربلاء، وأمر بهدم القبر الشريف الذي كان مركزاً من مراكز الاشعاع الثوري في أرض الإسلام.

وكانت كل هذه الظروف المريرة هي الظروف التي عاشها الإمام الزكي أبو محمد العسكري (عليه السلام) وهو في نضارة العمر وغضارة الشباب فكَوَتْ نفسه آلاماً وأحزاناً وقد عاش تلك الفترة في ظل أبيه وهو مروّع فذابت نفسه أسيً وتقطّعت ألماً وحسرة [5] .

وكان استشهاد والده (سنة 254هـ) وتقلّد الامامة بعده وكانت فترة امامته أقصر فترة قضاها إمام من أئمة أهل البيت الأطهار وهم أصح الناس أبداناً وسلامة نفسيّة وجسديّة. قد استشهد وهو بعد لمّا يكمل العقد الثالث من عمره الشريف، إذ كان استشهاده في سنة (260هـ) [6] فتكون مدة إمامته (عليه السلام) ست سنين. وهذه المدة القصيرة تعكس لنا مدي رعب حكّام الدولة العباسية منه ومن دوره الفاعل في الاُمة لذا عاجلوه بعد السجن والتضييق بدس السم له وهو لم يزل شاباً في الثامنة أو التاسعة والعشرين من عمره الميمون. [7] .

ولا بد من الاشارة إلي أنّ المنقول التاريخي عن الإمام العسكري (عليه السلام) في ظل حياة والده الإمام علي الهادي (عليه السلام) ومواقفهما لا يتعدي الولادة والوفاة والنسب الشريف وحوادث ومواقف يسيرة لا تتناسب ودور الإمام (عليه السلام) الذي كان يتمثل في حفظ الشريعة والعمل علي إبعاد الاُمة عن الانحراف ومواجهة التحديات التي كانت تواجهها من قبل أعداء الإسلام.

غير أن مجموعة من الروايات التي نقلها لنا بعض المحدثين تشير إلي اُمور مهمّة من حياة الإمام العسكري (عليه السلام)، وقد أشار الإمام العسكري نفسه إلي صعوبة ظرفه بقوله(عليه السلام): «ما مُنيَ أحد من آبائي بمثل ما مُنيتُ به من شك هذه العصابة فيّ». [8] .

وهذا شاهد آخر علي حراجة الظروف السياسية والاجتماعية التي كانت تحيط بالإمامين العسكريين علي بن محمد والحسن بن علي (عليهما السلام) والتي كانت تحتم إبعاد الإمام العسكري من الأضواء والاتصال بالعامة إلاّ في حدود يسمح الظرف بها أو تفرضها ضرورة بيان منزلته وإمامته وعلو مكانته وإتمام الحجة به علي الخواص والثقاة من أصحابه، كل ذلك من أجل الحفاظ علي حياته من طواغيت بني العباس.

وإن ما ورد منه في وفاة أخيه محمد يعدّ مؤشراً آخر يضاف إلي قول الإمام (عليه السلام) ويدل علي صعوبة الظرف الذي كان يعيشه الإمامان وحالة الاستعداء التي كانت تفرضها السلطة عليهما، فعند وفاة محمد بن علي الهادي(عليه السلام) ـ كما يروي الكليني عن سعد بن عبد الله عن جماعة من بني هاشم منهم الحسن بن الحسين الأفطس ـ حيث قال: «إنهم حضروا يوم توفي محمد بن علي بن محمد دار أبي الحسن (عليه السلام) وقد بسط في صحن داره والناس جلوس حوله فقالوا: قدّرنا أن يكون حوله من آل أبي طالب ومن بني العباس وقريش مائة وخمسون رجلاً سوي مواليه وسائر الناس إذ نظرنا إلي الحسن بن علي (عليه السلام) قد جاء مشقوق الجيب حتي قام عن يمينه ونحن لا نعرفه فنظر إليه أبو الحسن (عليه السلام) بعد ساعة من قيامه ثم قال له: «يابني أحدث لله شكراً فقد أحدث فيك أمراً».

فبكي الحسن (عليه السلام) واسترجع وقال: «الحمد لله رب العالمين، وإيّاه أسأل تمام نعمه لنا فيك وإنا لله وإنا إليه راجعون».

فسألنا عنه فقيل لنا: هذا الحسن إبنه وقدّرنا له في ذلك الوقت عشرين سنة أو أرجح فيومئذ عرفناه وعلمنا أنه قد أشار إليه بالإمامة وأقامه مقامه» [9] .

ونلاحظ أن سؤال جماعة عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وفي هذه المناسبة الأليمة التي حضرها أعيان الناس دليل قوي علي مدي تكتّم الإمام الهادي علي ولده العسكري (عليهما السلام)، خصوصاً وهو قد بلغ العشرين من مراحل حياة الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) عمره الشريف.


پاورقي

[1] حياة الإمام الحسن العسكري (دراسة وتحليل): 103 عن الاتحاف بحبّ الاشراف: 68.

[2] النور (24): 37.

[3] اُصول الكافي: 1 / 327 ح 11 وعنه في الارشاد: 2 / 319 واعلام الوري: 2 / 135 وعن الارشاد في كشف الغمة: 3 / 196، وعن بعضها في أعيان الشيعة 4 ق 3: 295 وعنه في حياة الإمام الحسن العسكري: 23.

[4] تاريخ اليعقوبي: 2 / 484.

[5] حياة الإمام الحسن العسكري: 24.

[6] الارشاد: 2 / 315، وعنه في بحار الأنوار: 50 / 236.

[7] مناقب آل أبي طالب: 4 / 422.

[8] تحف العقول: 517.

[9] الكافي: كتاب الحجة، باب الاشارة والنص علي أبي محمد (عليه السلام)، الحديث رقم 8.