الهبات الضخمة للشعراء
من بين الشعراء:
1- أبوشبل البرجمي الكوفي، وفد علي المتوكل فأنشده قصيدة من ثلاثين بيتا، و استهلها:
أقبلي فالخير مقبل
و اتركي قول المعلل
و ثقي بالنجح اذ أب
صرت وجه المتوكل
فأمر له المتولكل بثلاثين ألف درهم [1] .
2- الصولي:
و لما عقد المتوكل البيعة لأبنائه الثلاثة من بعده: المنتصر، و المعتز، و المؤيد، أنشد الصولي قصيدته التي مطلعها:
أصبحت عري الاسلام و هي منوطة
بالنصر و الاعزاز و التأييد
بخليفة من هاشم و ثلاثة
كنفوا الخلافة من ولاة عهود
فأمر له المتوكل بمائة ألف درهم، و أمر له ولاة عهده بمثلها [2] .
3- كما وفد عليه ابراهيم بن المدبر، فأنشده قصيدته التي مطلعها:
اليوم عاد الدين غ
ض العود ذو ورق نضير
الي آخر قصيدته التي يقولها الشعراء الغاوون، فأمر المتوكل له بخمسين ألف درهم، و أوعز الي وزيره عبيدالله بن يحيي أن يوليه عملا جليلا ينتفع به.
[ صفحه 429]
4- و ممن مدح المتوكل: مروان بن أبي الجنوب، فأمر له المتوكل بمائة و عشرين ألف درهم، و خمسين وست ثياب و بغلة و فرس و حمار.
5- و مدح المتوكل: علي بن الجهم بقصائده فقربه اليه، لنصبه العداء لأهل البيت عليهم السلام، فقد هجاهم، و قدم عليهم العباسيين فأثري ثروة طائلة.
نكتفي بهذا القدر من الهبات للشعراء، و هذا الانفاق يصور مدي تبذير الحكام العباسيين و اسرافهم بأموال الامة و تلاعبهم بالاقتصاد العام، دون مراعاة غالبية الامة المسحوقة.
ناهيك عن الاسراف و التبذير في تشييد القصور الفخمة و تأثيثها، و اغراق سيدات البلاط العباسي الترف و النعيم و الصرف علي الجواري و الغلمان من أفخر اللباس و أغلاها.
و كانت زبيدة زوجة الرشيد تلبس الثوب الموشي، و قيمته خمسين ألف دينار [3] ، و لم يقتصر هذا الترف علي العباسيات، و انما سري ذلك الي نساء الوزراء، فقد كانت عتابة ام جعفر البرمكي لها مائة جارية، و كانت كل جارية تلبس من الحلي و الجواهر ما يختلف عن الاخري [4] .
كل ما ذكرناه نموذجا من اسراف و تبذير العباسيين الذي هو بعيد كل البعد عن شرائع الاسلام.
و نتيجة كل تلكم الأعمال أن تعاني الأغلبية الساحقة من الامة البؤس و الحرمان، و قد شاع الفقر و انتشر في جميع طبقات الشعب، فقد سمع الأصمعي
[ صفحه 430]
شاعرا متعلقا بأستار الكعبة و هو يقول مرتجزا:
و صبية مثل صغار الذر
سود الوجوه كسواد القدر
جاء الشتاء و هم بشر
بغير قمص و بغير أزر
تراهم بعد صلاة العصر
و بعضهم ملتصق بصدري
و بعضهم ملتصق بظهري
و بعضهم منحجر بحجري
اذا بكوا عللتهم بالفجر
حتي اذا لاح عمود الفجر
ولاحت الشمس خرجت أسري
عنهم وحلوا باصول الجدر
كأنهم خنافس في جحر
هذا جميع قصتي و أمري
فارحم عيالي و تول أمري
فأنت أنت ثقتي و ذخري
كنيت نفسي كنية في شعري
أنا أبوالفقر و ام الفقر [5] .
و كان هذا الشاعر البائس قد عاش في منطقة أصابها الجفاف، و لم تصلها أية اسعافات، و قد صور حالة صبيته الصغار بصورة مثيرة و مؤلمة، فقد اسودت وجوههم، و انعدمت نضارة الصبا عنهم، و أقبل عليهم الشتاء و ليس عندهم ثياب يتقون به من البرد، قد التصقوا بأبيهم يطلبون منه الغذاء لينقذهم من الجوع، و هو لا يجد سبيلا لاغاثتهم، و يتضرع الي الله أن يرحمه، و ينقذه من هذه المحنة، و قد كني نفسه بأنه أبوالفقر و امه، فأي مأساة أفظع من هذه المأساة؟
و من الشعراء الذين عانوا الضيق و الحرمان عمرو بن الهدير، قال مصورا بؤسه:
وقفت فلا أدري الي أين أذهب
و أي امور بالعزيمة أركب
[ صفحه 431]
عجبت لأقدار علي تتابعت
بنحس فأفني طول عمري التعجب
و لما طلبت الرزق فانجذ حبله [6] .
و لم يصف لي من بحره العذب مشرب
خطبت الي الاعدام احدي بناته
لدفع الغني اياي اذ جئت أخطب
فزوجنيها ثم جاء جهازها
و فيه من الحرمان تخت و مشجب [7] .
فأولدتها الحرف [8] النقي فما له
علي الأرض غيري و الدجين ينسب
فلو تهت في البيداء و الليل مسبل
علي جناحيه لما لاح كوكب
و لو خفت شرا فاستترت بظلمة
لأقبل ضوء الشمس من حيث تغرب
و لو جاد انسان علي بدرهم
لرحت الي رحلي و في الكف عقرب
و لو يمطر الناس الدنانير لم يكن
بشي ء سوي الحصباء رأسي يحصب
و لو لمست كفاي عقدا منظما
من الدر أضحي و هو ودع مثقب
و ان يقترف ذنبا ببرقة مذنب
فان برأسي ذلك الذنب يعصب
الي أن يقول:
أمالي من الحرمان جيش عرمرم
و منه ورائي جحفل حين أركب [9] .
و صور الشاعر بهذه الأبيات ما كان يعانيه من الضياع و تعاسة الزمان و معاكسته في جميع الأحوال، و قد غرق بالجوع و الفقر في حين أن ذهب الأرض كان يذهب الي المخنثين و العازفين و غيرهم من أصحاب اللهو و الفسق و الفجور.
[ صفحه 432]
پاورقي
[1] الأغاني 14: 193، طبعة دار الكتب المصرية.
[2] الأغاني 14: 193، طبعة دار الكتب المصرية.
[3] مروج الذهب 2: 366.
[4] الوزراء و الكتاب: 192.
[5] طبقات ابن المعتز: 377، كتاب الورقة: 57.
[6] انجذ حبله: أي انقطع حبله.
[7] المشجب: خشبات منصوبة توضع عليها الثياب.
[8] الحرف: الحرمان.
[9] العقد الفريد 6: 216.