بازگشت

المهتدي


و هو أبواسحاق محمد بن الواثق بن المعتصم بن الرشيد، بويع بالخلافة لليلة بقيت من رجب سنة 255، و ما قبل أحد بيعته حتي اتي بالمعتز فقام المهتدي له، و سلم عليه بالخلافة، و جلس بين يديه، فجي ء بالشهود فشهدوا علي المعتز أنه عاجز عن الخلافة، فاعترف بذلك و مد يده فبايع المهتدي، فارتفع حينئذ المهتدي الي صدر المجلس [1] .



[ صفحه 460]



و قد وصف المؤرخون المهتدي بكونه أحسن الخلفاء مذهبا و أجملهم طريقة و سيرة و أظهرهم ورعا و أكثرهم عبادة، و أنه كان يتشبه بعمر بن عبدالعزيز و يقول: اني أستحي أن يكون في بني امية مثله و لا يكون مثله في بني العباس، و أنه كان يجلس للمظالم فيحكم حكما يرتضيه الناس، و كان يتقلل في مأكوله و ملبوسه [2] .

و لا يخفي أنه ثمة فرق كبير بين وصفهم (يتشبه) و ين كونه متطبعا علي هذه الصفات المذكورة، فالتطبع غير التصنع، و الفطرة السليمة غير النفوس الشريرة التي ترعرعت علي القتل و تمرست علي الجريمة، و قد لاحظت فيما تقدم في هذا الفصل كيف أن المهتدي اضطهد الطالبيين و سامهم القتل و التشريد و السجن، ففي خلاف فترة سلطانه الذي لم يدم سنة واحدة، ذكر أبوالفرج الاصفهاني فقط نحو عشرين بين علوي و طالبي شملهم الحبس أو القتل صبرا أو التشريد [3] ، و لو كان حسن السيرة أو كان ورعا متعبدا كما وصفوه لما ظلم أبناء الرسول الأكرم صلي الله عليه و آله و لحفظ فيهم وصيته.

و لم يتوقف ظلمه عند الطالبيين و حسب بل شمل الشيعة أيضا، فقد ذكر السيوطي أنه نفي جعفر بن محمود الي بغداد، و كره مكانه، لأنه نسب عنده الي الرفض [4] .

و قد علق الشهيد محمد الصدر رحمه الله في (تأريخ الغيبة الصغري) علي تشبه



[ صفحه 461]



المهتدي بعمر بن عبدالعزيز و جلوسه للمظالم و اظهاره العدل بقوله: هذا و ان كان تقدما نحو الحق بالنسبة الي أسلافه و تخلصا عن كثير من العثرات و الانحرافات التي وقعوا فيها، الا أنه علي أي حال حق بمقدار فهمه و ادراكه، حق مبتور ناقص، لا يمكن أن يكون هو التطبيق الصحيح للاسلام، و من ثم وقف الناس منه موقف الرافض المستنكر، و ذلك انطلاقا من احدي وجهتي نظر:

وجهة النظر الاولي: وجهة من يجعل الهه هواه، و يستصعب الحق و العدل، و يستكين الي اللهو و اللعب الذي عودهم عليه الخلفاء السابقون، فكان مسلك هذا الرجل ضيقا عليه و احراجا لموقفه، يمثل هذه الوجهة أكثر الشعب و أكثر القواد و الوزراء و المنتفعين، يقول المسعودي: فثقلت وطأته علي العامة و الخاصة، فاستطالوا خلافته و سئموا أيامه و عملوا الحيلة عليه حتي قتلوه [5] .

وجهة النظر الثانية: وجهة الامام الواعية لحقيقة المشكلة الاجتماعية من ناحية، و للعدل الاسلامي من ناحية اخري، فليست المشكلة الأساسية في المجتمع ما أدركه المهتدي من سوء القضاء أو انصراف الخليفة عن [النظر في] مصالح الناس، أو كثرة البذخ في البلاط، أو زيادة مكتسبات القواد و رواتبهم، فان كل ذلك و ان كان ظالما خارجا علي حكم الاسلام، الا أن ذلك كله فرع الحقيقة الكبري للمشكلة، و هو انحراف المجتمع أساسا عن العدل الاسلامي و عدم وعيه له و عدم استعداده لتطبيقه و التضحية في سبيله. و الحل لابد أن ينطلق من محاولة ايجاد الوعي و تثقيف الناس، حتي يخضعوا للحكم العادل و يكون طيبا علي نفوسهم.

كما أن العدل الاسلامي ليس هو ما يقضي به المهتدي، فانه علي أي حال



[ صفحه 462]



ليس جامعا لشرائط القاضي العادل في الاسلام، و بالنتيجة فان هذا الرجل هو ثمرة لخط طويل، منحرف - في نظر الامام عليه السلام - و غاصب للحق الأولي الذي يؤمن به الامام لنفسه و لآبائه. و من ثم لم تكن سيرة المهتدي لتشفع تجاه الامام بحيث يخرج بها هذا الرجل عن كونه ظالما الي كونه عادلا.

زد علي ذلك أن هذا الرجل الذي يدعي العدل، قد مارس سجن الامام عليه السلام، اذن فهو - علي ما هو عليه - ممثل للحقد التقليدي للحكم العباسي تجاه الامام [6] .

فقد روي بالاسناد عن أبي هاشم الجعفري، قال: كنت محبوسا مع الحسن العسكري عليه السلام في حبس المهتدي بن الواثق، فقال عليه السلام لي: في هذه الليلة يبتر الله عمره، فلما أصبحنا شغب الأتراك و قتل المهتدي و ولي المعتمد مكانه [7] .

و قد دلت المرويات الاخري علي أن المهتدي أراد قبل موته قتل الامام عليه السلام، فقد روي المسعودي و ابن طاووس بالاسناد عن أبي هاشم الجعفري، قال: كنت محبوسا مع أبي محمد عليه السلام في حبس المهتدي، فقال لي: يا أباهاشم، ان هذا الطاغية أراد أن يعبث بأمرالله تعالي في هذه الليلة، و قد بتر الله عمره، و جعله للمتولي بعده.

فلما أصبحنا شغبت الأتراك علي المهتدي و أعانهم العامة لما عرفوا من قوله بالاعتزال و القدر، و نصبوا مكانه المعتمد و بايعوا له، و كان المهتدي قد صحح العزم علي قتل أبي محمد عليه السلام، فشغله الله بنفسه حتي قتل و مضي الي



[ صفحه 463]



أليم عذاب الله [8] .

و روي نحوه الشيخ الطوسي في (الغيبة) الا أن في آخره: قال أبوهاشم: فلما أصبحنا شغب الأتراك علي المهتدي فقتلوه و ولي المعتمد مكانه و سلمنا الله تعالي [9] .

و قبل مقتل المهتدي بأيام كان قد هدد الامام عليه السلام و توعد شيعته، و قد وصل تهديده الي أسماع الامام عليه السلام عن طريق بعض شيعته، فقد روي عن أحمد بن محمد، قال: كتبت الي أبي محمد عليه السلام حيث أخذ المهتدي في قتل الموالي: يا سيدي، الحمدلله الذي شغله عنا، فقد بلغني أنه يتهددك و يقول: و الله لأجلينهم عن جديد الأرض [10] .

فوقع عليه السلام بخطه: ذلك أقصر لعمره، عد من يومك هذا خمسة أيام، و يقتل في اليوم السادس بعد هوان و استخفاف يمر به، و كان كما قال عليه السلام [11] .

و في هذا الحديث اشارة الي مسألتين مذكورتين في أغلب كتب التأريخ، الاولي: تنكر المهتدي للأتراك، و هو المعبر عنه في الحديث (قتل الموالي)، فقد ذكر اليعقوبي أن المهتدي تنكر للأتراك، و عزم علي تقديم الأبناء، فلما علموا بذلك استوحشوا منه و أشهروا الطن عليه، فأحضر جماعة منهم، فضرب أعناقهم،



[ صفحه 464]



و فيهم بايكيال رئيسهم، فاجتمع الأتراك و شغبوا، فخرج اليهم المهتدي في السلاح معلقا في عنقه المصحف، و استنفر العامة، و أباحهم دماءهم و أموالهم، و نهب منازلهم، فتكاثر الأتراك عليه، و افترقت عنه العامة حتي بقي وحده، و أصابته عدة جراح، و مر منصرفا حتي دخل دار رجل من القواد يقال له أحمد بن جميل، و لحقوه فأخذوه، فحملوه علي دوابه، و جراحاته تنطف دما، فدعوه الي أن يخلع نفسه، فأبي و مات بعد يومين، و كانت وفاته يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من رجب سنة 256 ه [12] .

أما المسألة الثانية التي يشير اليها الحديث فهي مطابقة ما جاء في الحديث من توقع الامام لمصير المهتدي العباسي، ليس من حيث الوقت فحسب، و الذي أفاد الراوي بصحة وقوعه، ولكن من حيث قول الامام عليه السلام: «بعد هوان و استخفاف يمر به»، و قد تقدم عن اليعقوبي نموذج من الهوان و الذل الذي مر به في خلعه و قتله.

و نموذج آخر نقله ابن الأثير أنه لما ولي منهزما في مواجهته مع الأتراك و هو ينادي: يا معشر المسلمين، أنا أميرالمؤمنين، قاتلوا عن خليفتكم، لم يجبه أحد من العامة الي ذلك، فسار الي باب السجن فأطلق من فيه، و هو يظن أنهم يعينونه، فهربوا و لم يعنه أحد - وليته أطلقهم حينما كان يقعد للمظالم، كما قيل، و هو في قوة سلطانه، اذا كان يؤمن بعدالة قضيتهم و بكونهم مظلومين - و سار بعد ذلك الي دار أحمد بن جميل صاحب الشرطة فدخلها و هم في أثره، فدخلوا عليه و أخرجوه، و ساروا به الي الجوسق علي بغل فحبس عند أحمد بن خاقان، و قبل المهتدي يده فيما قيل مرارا عديدة، و جري بينهم و بينه و هو محبوس كلام كثير، أرادوه فيه علي



[ صفحه 465]



الخلع فأبي و استسلم للقتل، فقالوا: انه كتب بخطه رقعة لموسي بن بغا و بابكيال و جماعة من القواد أنه لا يغدر بهم و لا يغتالهم و لا يفتك بهم و لايهم بذلك، و أنه متي فعل ذلك فهم في حل من بيعته و الأمر اليهم يقعدون من شاءوا، فاستحلوا بذلك نقض أمره، فداسوا خصيتيه و صفعوه فمات، و أشهدوا علي موته أنه سليم ليس به أثر و دفن بمقبرة المنتصر [13] .

و كان قتله في رجب سنة ست و خمسين و مائتين، و زاد ابن الأثير أن الأتراك لما رأوا المهتدي بدار أحمد بن جميل قاتلهم فأخرجوه، و كان به أثر طعنة، فلما رأي الجرح ألقي بيده اليهم، و أرادوه علي الخلع فأبي أن يجيبهم، فمات يوم الأربعاء و أظهروه للناس يوم الخميس و صلي عليه جعفر بن عبدالواحد، و كانوا قد خلعوا أصابع يديه من كفيه و رجليه من كعبيه حتي و رمت كفاه و قدماه و فعلوا به غير شي ء حتي مات [14] .

و فيما تقدم أدلة واضحة علي الهوان و الاستخفاف و الذل الذي تعرض له المهتدي، و هو مصداق واضح لما أشار اليه الامام عليه السلام في حديثه المتقدم.


پاورقي

[1] تأريخ الخلفاء للسيوطي: 361.

[2] الفخري: 246.

[3] مقاتل الطالبيين: 439 - 435.

[4] تأريخ الخلفاء: 362.

[5] مروج الذهب 4: 96.

[6] الغيبة الصغري: 173 - 171.

[7] مسند الامام العسكري عليه السلام: 91 / 37.

[8] اثبات الوصية: 245، مهج الدعوات: 343، بحارالأنوار 50: 313.

[9] الغيبة: 123.

[10] أي: عن ظهر الأرض.

[11] الكافي 1: 427 / 16، الارشاد 2: 333، اعلام الوري: 356، المناقب 4: 436، بحارالأنوار 50: 308 / 5.

[12] تأريخ اليعقوبي 2: 506.

[13] الكامل 6: 221.

[14] الكامل 6: 223.