بازگشت

مولد السفير


أجل، ان كل امام هو سفير الله في أرضه.

و كما أنه لا يناقش في عظمة الله عز اسمه، و لا في قدرته التي قامت بها السماوات و الأرض، فكذلك لا يناقش في نبوة النبي المرسل منه سبحانه، و لا في اقامة حجة له علي عباده، و لا يجادل في ذلك الا من افترض نفسه شريكا لله عزوجل في مشيئته و اختياره، و أولئك هم الجهلة و المماحكون.

و نحن عندما نكتب عن الأئمة عليهم السلام، فانما نذكر بتاريخهم الذي حكاه جدهم الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم، قبل وجودهم بزمن امتد من السنة الثلاثين الي السنة مائتين و ست و خمسين للهجرة، و ذكر ما يكونون فيه من النعم الربانية، و ما يصيبهم من ظلم الحكام و سلاطين الزمان، و من غالبية أبناء أمته بالخصوص. فكثير ما قال صلي الله عليه و آله و سلم:

«انا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة علي الدنيا. و ان أهل بيتي سيلقون من بعدي بلاء و تشريدا و تطريدا» [1] .



[ صفحه 18]



فقد كتب الله عزوجل علي رسله و أوليائه تحمل الصعاب أثناء أداء رسالاتهم، و قضي أن يمروا في أقسي امتحانات هذه الدنيا لأنهم لا يهادنون حاكما ظالما، و لا يبايعون طاغية زمان الا مكرهين. بل يقفون بوجه الباطل فيلقون من فظاظة أهله كل مكروه، و هم صابرون ماضون في طريق أداء كلمة الحق، و لا يمنعهم التضييق عليهم عن بث دعوة الله ولو وضعوا الشمس في يمينهم و القمر في شمالهم، فيوفيهم الله تعالي في آخرتهم أجر الصابرين الذي يكون بغير حساب، ثم يرفع درجاتهم علي سائر خلقه يوم الدين، و لذلك فانهم عقلوا ما حملوه من الله تعالي، و أعطوا الدنيا ما تستحقه من غير أن يكونوا عبادا لزخرفها و زبرجها، و من دون أن يتمرغوا في غضارة... زائل زوال الظل، يلهي عن نعيم دائم الي أبد الأبد.

من ذلك الامتحان القاسي أن أئمتنا عليهم السلام عاشوا في ظل ظلمه غاشمين جروهم الي حرب طاحنة مرة، و أقعدوهم في بيوتهم مرة ثانية، و فرضوا عليهم الاقامة الجبرية في جيرة قصور الظلم و الغشم مرة ثالثة، أو جوهم في غياهب السجون مرة بعد مرة، ثم انتهي بهم الحال الي القتل بالسيف أو بالسم في آخر مرة؟!!. و بله ذلك أدوا قسطهم من الواجب السماوي و ثبتوا ثباتا فيه شجاعة الرسل بدءا من جدهم أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، و انتهاء بالامام الحسن العسكري عليه السلام الذي نحن بصدد عرض سيرته المشرقة.. و لكن الضيق الذي عاناه أئمتنا الثلاثة الأخيرون: محمد الجواد، و علي الهادي، و الحسن العسكري صلوات الله عليهم، كان ضيقا فريدا من نوعه، ألزمهم أن يحتجبوا عن الناس و أن يخاطبوا مواليهم بواسطة نواب و وكلاء معتمدين يعملون بتمام السرية و التكتم. و مع ذلك كان يلاقي شيعتهم أشد العذاب حين كان ينكشف أمر علاقتهم بهم، أو أمر الاعتراف بامامتهم، الأمر الذي جعل هؤلاء الأئمة يخفون أمر خلفهم



[ صفحه 19]



ويسترون عليه سترهم علي أغلي أمانة الهية، فاختلف الناس في تواريخ ولادتهم، و أغمض المؤرخون - عن قصد أو عن خوف - ذكر تفاصيل حياتهم، فوصلنا من ذلك نزر يسير بعضه في غاية الاختصار.. و لكننا حين نمحص ما يقع في يدنا منه، نجد صور تاريخ حافل بالأمجاد، غني بمظاهر العظمة التي هي من صنع الله تعالي لا من صنع البشر.

فمع طلوع الفجر، و قبل بزوغ شمس الرابع من شهر ربيع الثاني سنة اثنتين و ثلاثين و مائتين للهجرة النبوية الشريفة، و في آخر عهد خلافة «الواثق» العباسي، و أول عهد خلافة «المتوكلون»... سطع نور طلعة المولود المبارك أبي محمد، الحسن العسكري عليه السلام، فهللت الملائكة، و سبحت الحور،... الامام لمولد الامام، وفاض... و دخل السرور الي قلوب سدنة... فما دونه من سكان السماوات و بعض سكان الأرضين، فعمر قلب لجدين و الأب و الأم بالفرحة الكبري، اذ أنجز الله وعده الذي وعد به عبده و أثلج بذلك صدور جنده المؤمنين.

و كان سن أبيه يومئذ ست عشرة سنة و شهورا، فشاع خبر المولود العظيم بين الأولياء و المقربين، و قرت به أعين عباد الله الصالحين، بالرغم من اخفاء مولده و طفولته و نشأته، سترا لأمره بين العامة، شأن آبائه الطاهرين من قبله... ثم بقي بعيدا عن نظر الرقباء، و لا يتشرف برؤيته الا المقربون المؤمنون.

ثم حمله أبوه معه الي العراق حين أشخصه الخليفة «المتوكل» اليها سنة ست و ثلاثين و مائتين، و هو في الرابعة و شهور عن عمره الشريف. و كان



[ صفحه 20]



هو و أبوه و جده يعرف كل واحد منهم بابن الرضا عليه السلام [2] .

و هو الامام الحادي عشر الذي نص عليه نبينا صلي الله عليه و آله و سلم من خلفائه الاثني عشر الذين صحح نصه عليهم الخاصة و العامة في عشرات الأحاديث المعتبرة عند كافة الفرق الاسلامية. و لم يوص اليه أبوه عليه السلام هما الا قبل موته بأربعة شهور، و لم يعلم بذلك الا خواص شيعته كما ستري بعد قليل.

أبوه هو الامام علي الهادي عليه السلام الذي وفقنا الله سبحانه الي دراسة سيرته في كتاب سبق هذا الكتاب و لا ضرورة لتفصيل أحوال هنا.

و اسم أمه سليل [3] المغربية التي كانت من العارفات الصالحات الطاهرات كما وصفها العارفون. و يكفيها شرفا أنها كانت كمفزع للشيعة و ملاذ لهم بعد وفاة زوجها العظيم، و كان يقال لها الجدة اطلاقا لكونها جدة صاحب العصر عجل الله تعالي له الفرج و النصر» و الدليل علي صحة اسمها



[ صفحه 21]



الذي أثبتناه من سبعة أسماء ذكرها أهل السير، أنه روي عن العالم عليه السلام أنه قال:

لما أدخلت سليل أم أبي محمد عليه السلام علي أبيه - الهادي عليه السلام، قال:

سليل مسلولة من الآفات و العاهات، و الأرجاس و الأدناس - أي خالصة منها - و هي من القانتات الصالحات..

ثم قال لها: سيهبك الله حجته علي خلقه.. يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا» [4] أي يهب ابنها العسكري عليه السلام.

و قد جاء بشأنها الرفيع سلام الله عليها ما رواه الشيخ الصدوق عن أحمد بن ابراهيم الذي قال:

«دخلت علي حكيمة بنت محمد بن علي الرضا، أخت أبي الحسن - الهادي - صاحب العسكر عليهم السلام، في سنة اثنتين و ستين و مائتين، فكلمتها من وراء حجاب، و سألتها عن دينها - أي عقيدتها في الامامة - فسمت لي من تأتم بهم، ثم قالت و الحجة بن الحسن عليه السلام فسمته - أي صاحب الزمان عليه السلام، فقلت لها: أين الولد؟!.

قالت: انه مستور.

فقلت: الي من تفزع الشيعة؟!.

فقالت: الي الجدة، أم أبي محمد عليه السلام.

فقلت لها: أقتدي بمن وصيته امرأة؟!.

قالت: اقتداء بالحسين بن علي. و الحسين بن علي أوصي الي أخته



[ صفحه 22]



زينب بنت علي عليه السلام في الظاهر، و كان ما يخرج عن علي بن الحسين من علم ينسب الي زينب سترا علي علي بن الحسين عليه السلام» [5] .

فسؤال أحمد بن ابراهيم هو استفهام مستبصر، و تعجبه من كون الوصية امرأة في محله.

و كذلك الجواب الحكيم الصادر عن السيدة الجليلة حكيمة بأن تفزع الشيعة الي الجدة الكريمة، فانه جواب لا جواب غيره باعتبار تغيب الامام الحجة عجل الله تعالي فرجه عن الأنظار بأمر الله عز و علا، و الجدة لا تتكلم الا عن علم منه أو من أبيه صلوات الله عليهما. و لقد كان الامام علي بن الحسين عليه السلام تحت رقابة أموية شديدة بعد فاجعة كربلاء التي لم تشهد أفظع منها الأرض و لا السماء، و كان ما يخرج عنه، تبلغه عمته السيدة زينب سلام الله عليها لأصحاب العلاقة سترا علي تحركاته و نشاطاته، فكيف بالامم المغيب عن الأبصار بأمر الله، الذي لو ظفر به سلطان زمانه لقتله شر قتلة!!. فلا يجوز أن يبقي شيعته ضائعين في أول عهد غيبته الموحشة الي أن يشتهر أمر نوابه و سفرائه. فلا بد من الاتصال به بادي ء بدء، بواسطة أقرب الناس اليه، و ليس أقرب الي ابن السنوات الست من أمه و جدته بعد مضي أبيه، خصوصا و هو بلا أخ أصغر و لا أخ أكبر، و لا عم سوي عمه الكذاب جعفر، الذي لا يؤمن علي سلامته اذا عرف بمكان وجوده.

و هذه الرواية ان دلت علي شي ء فانما تدل علي أن هذه الجدة ذات شأن عظيم حتي تكون مستأمنة علي حمل السؤال ورد الجواب، في مواضيع يترتب عليها حفظ الدين و حفظ الشيعة.

كنية امامنا العسكري عليه السلام: أبومحمد، دون سواها.



[ صفحه 23]



و ولده: القائم المنتظر لدولة الحق في آخر الزمان، و لا ولد له سواه أبدا.

و ألقابه: الصامت، و الهادي، و الرفيق، و الزكي، و النقي، و الخالص، و المشفع، و المستودع، و السراج المضي ء، و الشافي، و المرضي، ثم العسكري الذي هو أشهر ألقابه. و قد لقب به هو و أبوه لأن المحلة التي كانا يسكنانها بسر من رأي كانت تسمي «العسكر» فلذلك قيل لكل واحد منهما: العسكري.

أما صفته: فبين السمرة و البياض.

و خاتمه: سبحان من له مقاليد السماوات و الأرض.

و بابه: عثمان بن سعيد، ثم الحسين بن روح النوبختي، و قد صارا من سفراء ولده المهدي عجل الله تعالي فرجه و وطد سلطانه.

و شاعره: ابن الرومي، الشاعر المعروف و المشهور بهذا اللقب.

و من ثقاته: علي بن جعفر الذي كان قيما لأبيه عليه السلام، و أبوهاشم: داود بن القاسم الجعفري الذي عاصر خمسة من الأئمة عليهم السلام، و داود بن أبي يزيد النيسابوري. و محمد بن علي بن بلال، و عبدالله بن جعفر الحميري القمي، و أبوعمرو: عثمان بن سعيد العمري - الزيات، و السمان -، و اسحاق بن ابراهيم الكوفي، و أبوالقاسم: جابر بن يزيد الفارسي، و ابراهيم بن عبيدالله بن ابراهيم النيسابوري.

و من أصحابه: محمد بن الحسن الصفار، و عبدوس العطار، و سري بن سلامة النيسابوري، و أبوطالب: الحسين بن جعفر الشاقائي، و أبوالبختري: مؤدب ولد الحجاج.

و أشهر وكلائه: محمد بن أحمد بن جعفر، و جعفر بن سهيل



[ صفحه 24]



الصيقلي، و قد أدركا أباه قبله، و لحقا ابنه من بعده [6] .

عاش امامنا العسكري في عهد أبيه عليهم السلام، ثلاثا و عشرين سنة أغفل. فيها أمره المؤرخون الموالون خوفا علي أنفسهم، و المأجورون طمعا في دنيا الحكام و نيل رضاهم، و حملوا وزر اغماض أكثر الحوادث التي كانت لا ترضي أربابهم الأرضيين.. و لكننا عثرنا علي شي ء غير ذي بال اذا قيس بالصورة الحقيقية لسليل بيت الوحي و موضع الرسالة الذي لا فرق بين الكبير و الصغير فيه اذ كان منتجبا لحمل المسؤولية السماوية العظمي.

فمن دلائل كرمات امامنا، التي حباه الله تعالي بها، ما حصل له في طفولته المبكرة و حكاه عنه محمد بن عبدالله، ما يلي:

«وقع أبومحمد عليه السلام و هو صغير في بئر الماء، و أبوالحسن - أبوه - عليه السلام في الصلاة، و النسوان يصرخن.

فلما سلم أبوه قال: لا بأس.

فرأوه و قد ارتفع الماء الي رأس البئر، و أبومحمد علي رأس الماء، يلعب بالماء!» [7] .

و لا يحسن بنا أن نقوم ونقعد لهذه الظاهرة العجيبة، المستحيلة في



[ صفحه 25]



العرف و العادة. بل ينبغي لنا الالتفات حالا الي أن الله تعالي الذي اختار هذه الطفل ليكون اماما منتجبا من لدنه، لا يجعل هذا الامام - في صغره - طائشا كالأطفال، و لا خلق ليلهو و يلعب كأترابه، و لا تزل قدمه كما تزل أقدام أمثاله من الصغار؛ بل شاء سبحانه أن يبدأ ظهور شأنه منذ هذه السن المبكرة، ليطلع الناس علي دلائل اختياره للأمر الكبير، بحادثة غير مألوفة تلفت الأنظار بشكل واضح لا شبهة فيه؛ فكانت هذه الحادثة التي انتشر خبرها و تناقلته الألسن و الأقلام مدة اثني عشر قرنا من الزمان.. حتي وصل الينا.

ان مناقب حفظة أمر الله و حملة كلمته لا تتعلق بكبر و لا بصغر، و لا تدخل تحت عرف و لا عادة؛ و لو كانت مناقبهم مألوفة من غيرهم لبطل كونها مناقب و كرامات، و لصارت مثل صفات الناس العاديين.. فصفاتهم الكمالية جميعها موهوبة، و صفات غيرهم مكسوبة، و الفرق كبير بين الحالين.

و ننبه الي أن مواهب الامام لا يظهرها الله تعالي أثناء وجود أبيه الا في مناسبات ضرورية، اذ من المعلوم أن أي امام لا يتكلم في الأمور العامة في حياة أبيه الا لاعطاء دليل و اظهار كرامة، و حيث يشاء الخالق سبحانه أن تبدو مخايل عظمته - فاذا مضي أبوه و خلع الله تعالي عليه سربال ولايته علي الناس، تحمل أعباء وظيفته و تصدر للفتيا صغيرا كان أو كبيرا.

و لتعرف ظلم تلك العهود و قساوة غشمها، تأمل قليلا في حياة امام عاش ثلاثا و عشرين سنة لم يذكر المؤرخون عنها الا كلمات مقتضبات. و لولا الرواة الذين تناقلوا بعض الأخبار شفة فشفة و قلما فقلما لما عثرنا علي ما يبل الأوام، في حين أن أخبار لهو القصور و طيشها و عربدتها و خدمها و جواريها و غلمانها و مغنياتها و راقصاتها تملأ بطون كتب تاريخ هاتيك العهود العفنة التي لا تزال تفوح منها روائح الفسق و الفجور من دور أمراء



[ صفحه 26]



للمؤمنين حكموا باسم رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و سموا أنفسهم خلفاء من بعده علي المسلمين!.

تزوج الامام العسكري عليه السلام في زمن أبيه، و لكنه لم يرزق مولودا في مدي السنوات الست التي قضاها متزوجا في وارف ظله صلوات الله عليه و قبل وفاته.

و قصة زواجه كانت آية من الآيات الباهرة، نذكرها للقاري ء الكريم كي يري كيف تتم مشيئة الله تعالي اذا أراد أمرا من الأمور.

فقد كان بشر بن سلمان النخاس [8] - بائع الجواري - أحد موالي أبي الحسن و أبي محمد عليه السلام. و قد دعاه الامام أبوالحسن الهادي و قال له:... بشر، انك من ولد الأنصار، و هذه الموالاة لاتزال فيكم يرثها خلف عن سلف، و أنتم ثقاتنا أهل البيت.

و كان قد كتب كتابا لطيفا بخط روي و لغة رومية، و طبع خاتمه عليه. و أخرج شقة صفراء فيها مئتان و عشرون دينارا أعطاه اياها مع الكتاب و أنفذه الي بغداد و قال:

احضر معبر الفرات ضحوة يوم كذا، الي أن تبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا و كذا، و يأتي موعد البيع. فعند ذلك تعطيها الكتاب.

قال - بشر -: ففعلت كذا. فلما نظرت الي الكتاب بكت بكاء شديدا و قالت للنخاس: بعني من صاحب هذا الكتاب!.

فما زلت أشاحه - أي أساومه و أحاول الانقاص - في ثمنها حتي استقر



[ صفحه 27]



الأمر و استوفي مني الدنانير - التي أرسلها معي أبوالحسن عليه السلام بلا زيادة و لا نقصان -. و تسلمت منه الجارية مستبشرة، فكانت تلثم الكتاب و تضعه علي خدها.

فقلت: تعرفين صاحبه؟!.

قالت: أعرني سمعك. أنا مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، و أمي من ولد الحواريين تنسب الي وصي المسيح شمعون. ان قيصر أراد أن يزوجني من ابن أخيه، فجمع من نسل الحواريين ثلاثمائة رجل، و من الملوك و القواد أربعة آلاف، و نصب عرشا مصوغا من أصناف الجواهر فوق أربعين مرقاة. فلما استقام أمرهم للخطبة انهارت الأعمدة، و خر الصاعد علي العرش مغشيا عليه!. فتغيرت ألوان الأساقفة و قالوا: أيها الملك اعفنا من ملاقاة هذه النحوس.

فتطير جدي من ذلك، و أمر أن يزوج أخاه - أي أخاالعريس الأول -.

فلما فعلوا ذلك حدث علي الثاني ما حدث علي الأول!. فقام جدي و فرق الناس.

فرأيت تلك الليلة - في المنام - المسيح و شمعون و عدة من الحواريين قد اجتمعوا في قصر جدي، و نصبوا فيه منبرا من نور يباري السماء علوا و ارتفاعا، فدخل عليهم محمد صلي الله عليه و آله و سلم مع جماعة، فتقدم اليه المسيح فعانقه، و خطب محمد فزوجني من ابنه، و شهد بنو محمد و الحواريون. فلما استيقظت كنت أشفق علي نفسي من اذاعة ما رأيته مخافة القتل. فكتمت ذلك مدة، و مرضت و ضعفت نفسي، و عجزت الأطباء عن دوائي.

فقال قيصر: يا بنية، هل يخطر ببالك شهوة؟.



[ صفحه 28]



فقلت: لو كشفت عمن في سجنك من أساري المسلمين، رجوت أن يهب المسيح و أمه لي العافية.

فلما فعل ذلك تجلدت في اظهار الصحة من بدني، و تناولت يسيرا من الطعام، فأقبل علي اكرام الأساري، فأريت أيضا - في المنام - كأن فاطمة الزهراء عليهم السلام زارتني، و معها مريم العذارء عليهم السلام و ألف وصيفة من وصائف الجنان. فقيل لي هذه سيدة النساء أم زوجك أبي محمد، فتعلقت بها و شكوت اليها امتناع أبي محمد من زيارتي، فقالت: ان ابني لا يزورك و أنت مشركة بالله، و هذه أختي مريم، فدعي الشرك بالله و قولي أمامنا: أشهد أن لا اله الا الله، و أشهد أن محمدا رسول الله. فلما تكلمت بها ضمتني الي صدرها و طيبت نفسي.

وكان بعد ذلك يزورني أبومحمد، ثم أخبرني أن جدك سيسري جيوشا الي قتال المسلمين يوم كذا، فعليك باللحاق به متنكرة في زي الخدم مع عدة من الوصائف من طريق كذا.

ففعلت، فوقعت علينا طلائع المسلمين و أخذونا أسيرات، و كان من أمري ما شاهدت.

قال بشر: فلما دخلت علي أبي الحسن عليه السلام قال لها: كيف أراك الله عز الاسلام و شرف أهل بيت نبيه محمد صلي الله عليه و آله و سلم؟!.

قالت: كيف أصف لك يا ابن رسول الله ما أنت أعلم به مني؟!.

قال: فأبشري بولد يملك الدنيا شرقا و غربا، و يملأ الأرض قسطا و عدلا، كما ملئت جورا و ظلما.. يا كافور: ادع لي أختي حكيمة.

فلما دخلت عليه قال لها: هاهيه!. فاعتنقتها طويلا.



[ صفحه 29]



قال - عليه السلام -: خذيها الي منزلك، و علميها الفرائض و السنن، فانها زوجة أبي محمد، و أم القائم» [9] .

فبوركت هذه الزوجة الشريفة من زوجة كريمة الأصل، عالية الفصل و الفضل، زفها رسل الله تعالي الي ولي الله في أرضه لا يداني أصله أصل في الأرض!. و لا جرم أن تلد اماما هماما يجمع بين شجرتي النبوة و الوصية، كما يجمع الناس علي العقيدة الواحدة التي تشمل المعمور في آخر الدهور!.

و لقد كان امامنا بعد آبائه عليهم السلام جميعا، أمين الله علي غيبه، يحوط رسالة السماء النازلة علي خاتم الأنبياء صلي الله عليه و آله و سلم. و قد ألبسه الله تعالي و شاحا من عظمته، فكان مهيبا لم ير أعظم منه جلالة، و لا أغض طرفا، و لا أندي كفا، و لا أشد خشية من الله عزوجل، و لا أكثر صلاة و دعاء، و لا أعظم رجاء، و لا أحق احتراما و اكراما و تبجيلا!.

قال عنه القطب الراوندي: «أما الحسن بن علي العسكري، فقد كانت أخلاقه كأخلاق رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم. و كان رجلا حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن، حدث السن، له جلالة و هيبة حسنة، يعظمه العامة و الخاصة اضطرارا: يعظمونه لفضله، و يقدمونه لعفافه و صيانته، و زهده و عبادته، و صلاحه و اصلاحه و كان جليلا نبيلا، فاضلا كريما، يحمل الأثقال - أي الهموم و المصائب - و لا يتضعضع للنوائب. أخلاقه خارقة للعادة، علي طريقة واحدة» [10] .





[ صفحه 30]



و ذكر الامام المالكي ابن الصباغ سيرته عليه السلام في سفره النفيس (الفصول المهمة) و ختمها بقوله:

«مناقب سيدنا أبي محمد، الحسن العسكري، دالة علي أنه السري ابن السري، فلا يشك أحد في امامته و لايمتري؛ و اعلم أنه ان بيعت مكرمة فسواه بائعها و هو المشتري!، واحد زمانه غير مدافع، و يسود وحده من غير منازع!. و سيد أهل عصره، و امام أهل دهره. أقواله سديدة، و أفعاله حميدة، و اذا كانت أفاضل زمانه قصيدة فهو في بيت القصيدة، و ان انتظموا عقدا كان مكان الواسطة الفريدة!. فارس العلم الذي لا يجاري، و مبين غوامضه فلا يحاول و لا يماري. كاشف الحقائق بنظره الصائب، مظهر الدقائق بفكره الثاقب، المحدث في سره بالأمور الخفيات، الكريم الأصل و النفس و الذات، تغمده الله برحمته، و أسكنه فسيح جنته، بمحمد صلي الله عليه و آله و سلم آمين» [11] .

و قال عنه الشيخ كمال الدين، محمد بن طلحة:

«أما مناقبه، فاعلم أن المنقبة العليا، و المزية الكبري التي خصه الله جل و علا بها، فقلده فريدها، و منحه تقليدها، و جعلها صفة لا يبلي الدهر جديدها، و لا تنسي الألسن تلاوتها و ترديدها، أن المهدي من نسله المخلوق منه، و ولده المنتسب اليه، و بضعته المنفصلة عنه..

و كفي أبامحمد، الحسن، تشريفه من ربه، أن جعل المهدي من كسبه، و أخرجه من صلبه، و جعله معدودا في حزبه!. لم يكن لأبي محمد ولد سواه، و حسبه ذلك منقبة و كفاه!. لم تطل في الدنيا أيام مقامه و مثواه، و لا امتد أمد حياته ليظهر للناظرين مآثره و مزاياه!» [12] .



[ صفحه 31]



و لو مضينا في نقل ثناء من كتبوا عنه و مدحوه بما هو دون ما فيه، لطال بنا المقام، و لخرجنا عن جوهر موضوعنا و خطة سيرنا في بيان معالم سيرته الكريمة التي تدل علي أنه عظيم مل ء معني العظمة في مفهومها العلوي لا الأرضي!.

لم يخلف الامام العسكري عليه السلام من البشر سوي الامام الثاني عشر المنتظر الذي جهد سلاطين الزمان في ترصد ولادته لقتله قبل أن يبصر النور، اذ صح عندهم قول الصادق الأمين صلي الله عليه و آله و سلم بأنه يدمر ملك الظالمين، و ينشر العدل بين العالمين، بيد أنهم لو بذلوا ذلك الجهد في اقامة العدل علي الأرض لكان خيرا لهم لو كانوا يعقلون!.

قال السيد ابن طاووس:

«ان مولانا الحسن بن علي العسكري عليه السلام، قد كان أراد قتله الثلاثة ملوك الذين كانوا في زمانه، حيث بلغهم أن مولانا المهدي عليه السلام يكون من ظهره عليه السلام. و حبسوه عدة دفعات، فدعا علي من دعا منهم، فهلك في سريع من الأوقات..» [13] .

لذلك أخفي امامنا مولد ابنه عليه السلام هما بسبب أنه عاش في عهود صعبة ظالمة كانت شديدة الطلب له، لوضع اليد عليه. و لذا لم يظهر المولود المبارك علي الجمهور، و بقيت حسرة الظالمين المتربصين به لقتله في صدورهم و ماتوا و هم يزدردون غيظهم!.

قال عيسي بن صبيح: «دخل الحسن العسكري عليه السلام الحبس، و كنت



[ صفحه 32]



به عارفا. فقال لي: لك خمس و ستون سنة و أشهرا، و يوما - أي أنه عليه السلام ذكر عدد الأشهر، و عدد الأيام!.

و كان معي كتاب دعاء و عليه تاريخ مولدي، و اني نظرت فيه فكان كما قال. و قال - عليه السلام -: هل رزقت من ولد؟.

قلت: لا.

قال: اللهم ارزقه ولدا يكون له عضدا، فنعم العضد الولد.. ثم تمثل:



من كان ذا عضد يدرك ظلامته

ان الذليل الذي ليست له عضد



قلت: ألك ولد؟.

قال: اي والله سيكون لي ولد يملأ الأرض قسطا و عدلا!. فأما الآن فلا. ثم تمثل:



لعلك يوما أن تراني كأنما

بني حوالي الأسود اللوابد



فان تميما قبل أن يلد الحصي

أقام زمانا و هو في الناس واحد [14] .



(وكان أمر الله مفعولا) [15] .



[ صفحه 33]



فقد ظهرت طلعة المولود المبارك حسب الوعد رغم تعقب الطغاة مولده لخنقه في المهد!. ثم رآه كثيرون من الثقات و الأبدال و من نساء و رجال. و تسلم أعباء الامامة من أبيه و نصب له وكلاء و... و سفراء؛ [16] و سيأتي اليوم السعيد الذي يراه فيه كل انسان علي رأس حكومة العدل التي لم ترها الأرض الا قرابة أربع سنوات علي عهد جده أميرالمؤمنين عليه السلام في الكوفة..

وكان أبوه لا يألو جهدا في تكرار الكلام عنه، قبل مولده، و بعده، ليثبت شيعته علي عقيدتهم بخلفاء رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم الاثني عشر، و لايترك فرصة الا و يغتنمها لاذاعة أمره و بيان اسمه و نعته، و ايضاح طبيعة غيبته؛ ثم ما فتي ء يشد قلوبهم، و يشدد في تحذيرهم من الشك و الارتياب، ليعلم أنه قد بشر و أنذر من جهة، و ليوقن أنهم صاروا علي علم تام بأمر امامهم الثاني عشر، اذ كان يعرف الشكوك التي سيقعون فيها من بعده، و الجدالات التي سترتفع فيها الأصوات بشأن ابنه صلوات الله عليه و عليه.

و قد قال مرة لجماعة من شيعته:

«كأني بكم و قد اختلفتم من بعدي بالخلف مني!.

ألا ان المقر بالأئمة بعد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، المنكر لولدي، كمن أقر بجميع أنبياء الله و رسله، ثم أنكر نبوة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، لأن طاعة آخرنا كطاعة أولنا، و المنكر لآخرنا كالمنكر لأولنا!» [17] مبينا بذلك أن أمر السماء واحد لا يتجزأ، صدر عن واحد أحد، حكيم عليم، من شك فيه، أو شك بأن هذا الأمر ليس من عنده، كان من الأخسرين أعمالا.



[ صفحه 34]



قال أبوهاشم الجعفري رحمه الله:

«قلت لأبي محمد، الحسن بن علي العسكري عليه السلام: جلالتك تمنعني عن مسألتك، أفتأذن لي أن أسألك؟.

فقال: سل.

فقلت: يا سيدي، هل لك ولد؟.

قال: نعم.

فقلت: ان حدث حادث فأين أسأل عنه؟.

قال: بالمدينة» [18] .

ففي الأخبار الصحيحة السند أنه عجل الله تعالي له النصر و ظهور الأمر، يقضي أكثر أوقاته في المدينة المنورة - يثرب - بجوار حضرة جده الأعظم - صلي الله عليه و آله و سلم.

و قال نصر بن علي الجهضمي، و هو من ثقات المخالفين في مواليد الأئمة عليهم السلام:

«و من دلائل ما جاء عن الحسن بن علي العسكري عند ولادة ابنه: زعمت الظلمة أنهم يقتلونني ليقطعوا هذا النسل؟!! كيف رأوا قدرة القادر؟!. و سماه المؤمل» [19] .

و كذلك قال محمد بن عبدالله:

«خرج عن أبي محمد حين قتل الزبيري: هذا جزاء من اجترأ علي الله



[ صفحه 35]



في أوليائه!. زعم أنه يقتلني و ليس لي ولد؟!! فكيف رأي قدرة الله فيه؟!.

قال: و ولد له ولد، و سماه باسم رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و ذلك في سنة ست و خمسين و مائتين» [20] .

فكذلك كان مولد ذلك السفير الخطير سلام الله عليه.

و كذلك كانت نشأته المغمضة الملامح عن قصد للمحافظة علي سلامته، و عن غير قصد، لتعويد شيعته علي مقاساة مرارة غيبته.

و هكذا خلف امامنا من بعده خاتم السادة القادة النجباء الأبرار، أوصياء خاتم الأنبياء، و رسل السماء الأطهار، صلوات الله و بركاته و تحياته عليهم أجمعين.. و نحن لظهور أمره و تحقيق نصره بالانتظار ان شاء الله تعالي..

و لن أترك هذا الموضوع قبل أن أبين للقاري ء الكريم، كيف أظهر الامام ابنه، وأمر ابنه، للأنام بصورة سرية بارعة بلغت من التكتم مبلغا عظيما و من الاعلام المركز مبلغا أعظم!. ثم أخذ بعدها يستطلع مدي ايمان شيعته بالخبر الميمون، ليكون علي بينة مما يعتقدون. فقد قال أحمد بن اسحاق بن مصقلة:

«دخلت علي أبي محمد عليه السلام فقال لي:

يا أحمد، ما كان حالكم في ما كان الناس فيه من الشك و الارتياب؟! - يعني حين أبلغه خبر ولادة الحجة عجل الله تعالي فرجه -.



[ صفحه 36]



قلت: لما ورد الكتاب بخبر مولد سيدنا عليه السلام، لم يبق منا رجل و لا... و لاغلام بلغ الفهم، الا قال بالحق.

قال عليه السلام: أما علمتم أن الأرض لا تخلو من حجة لله تعالي؟!» [21] .

في حديث طويل يمر معنا ما هو بمعناه.

و لكتاب الذي كان عليه السلام قد بعث به الي أحمد بن اسحاق، هو:

«ولدنا مولود، فليكن عندك مستورا، و عن جميع الناس مكتوما. فانا لم نظهر عليه الا الأقرب لقرابته و الولي لولايته.

أحببنا اعلامك ليسرك الله به مثلما سرنا به، والسلام» [22] .

وبعد ذلك شرع بالسماح للأمناء علي السر برؤيته الكريمة، و بمخاطبته ليوقنوا بالحق، و ليكونوا رسل اعلام منظم موثوق.

و لنبدأ بأحمد بن اسحاق بن سعد الأشعري الذي قال:

«دخلت علي أبي محمد، الحسن بن علي العسكري عليه السلام، و أنا أريد أن أسأله عن الخلف من بعده.

فقال لي مبتدئا: يا أحمد بن اسحاق، ان الله تبارك و تعالي لم يخل الأرض منذ خلق آدم، و لا يخليها الي أن تقوم الساعة، من حجة لله علي خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الأرض، و به ينزل الغيث، و به يخرج بركات الأرض.

فقلت: يا ابن رسول الله، فمن الخليفة و الامام بعدك؟.



[ صفحه 37]



فنهض مسرعا، فدخل البيت، ثم خرج و علي عاتقه غلام كأن وجهه القمر ليلة البدر، من أبناء ثلاث سنين، و قال:

يا أحمد بن اسحاق، لولا كرامتك علي الله و علي حججه، ما عرضت عليك ابني هذا.. انه سمي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، وكنيه الذي يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت جورا و ظلما!!

يا أحمد بن اسحاق، مثله في هذه الأمة مثل الخضر. و مثله مثل ذي القرنين!. و الله ليغيبن غيبة لا ينجو من الهلكة فيها الا من ثبته الله علي القول الثابت بامامته، و وفقه الله للدعاء بتعجيل الفرج.

فنطق الغلام بلسان عربي فصيح فقال: أنا بقية الله في أرضه، و المنتقم من أعدائه!. فلا تطلب أثرا بعد عين يا أحمد بن اسحاق!. - أي لا تستقص أخباري لتراني أثناء الغيبة، و اكتف بأنك رأيت الآن و سمعت -.

فخرجت مسرورا فرحا.. فلما كان من الغد عدت اليه فقلت له: يا ابن رسول الله، لقد عظم سروري بما مننت علي، فما السنة الجارية فيه من الخضر، و من ذي القرنين؟!.

فقال: طول الغيبة يا أحمد.

فقلت: يابن رسول الله، و ان غيبته لتطول؟!.

فقال: اي و ربي، حتي يرجع عن هذا الأمر أكثر القائلين به، فلا يبقي الا من أخذ الله عهده بولايتنا، و كتب في قلبه الايمان، وأيده بروح منه!. يا أحمد بن اسحاق، هذا أمر من أمر الله، و سر من سر الله، و غيب من غيب الله!. فخذ ما آتيتك و اكتمه، و كن من الشاكرين تكن معنا غدا في عليين» [23] .



[ صفحه 38]



و لسعد بن عبدالله القمي حديث في هذا الموضوع قال فيه:

«جئنا - هو و أحمد بن اسحاق - الي باب دار مولانا عليه السلام، فاستأذنا عليه فأذن لنا، فدخلنا الدار.

وكان مع أحمد بن اسحاق جراب قد ستره بكساء طبري، و كان فيه مائة و ستون صرة من الذهب و الورق - أي الفضة و العملة المسكوكة - علي كل واحدة منها خاتم صاحبها الذي دفعها اليه.

و لما دخلنا وقعت أعيننا علي أبي محمد، الحسن العسكري عليه السلام، و كان وجهه كالقمر ليلة البدر؛ و قد رأينا علي فخذه غلاما يشبه المشتري في الحسن و الجمال!. و كان علي رأسه ذؤابتان، و كان بين يديه رمان من الذهب قد حلي بالفصوص و الجواهر الثمينة قد أهداه واحد من رؤساء البصرة.

و كان في يده قلم يكتب به شيئا علي قرطاس، فكلما أراد أن يكتب شيئا أخذ الغلام يده، فألقي الرمان حتي يذهب الغلام الي ويجي ء به؛ فلم يترك يده يكتب ما شاء.

ثم فتح أحمد بن اسحاق الكساء، و وضع الجراب بين يدي العسكري عليه السلام.

فنظر العسكري الي الغلام فقال: فض الخاتم عن هدايا شيعتك و مواليك!.

فقال الغلام: يا مولاي، أيجوز أن أمد يدا طاهرة الي هدايا نجسة و أموال رجسة؟!.



[ صفحه 39]



ثم قال: يا ابن اسحاق، أخرج ما في الجراب ليميز بين الحلال و الحرام.

ثم أخرج صرة فقال الغلام: هذا لفلان بن فلان من محلة كذا بقم، مشتمل علي كذا و كذا.. الخ..» [24] و الحديث طويل يمر ما هو بمعناه.

فالمولود المبارك الذي اختاره الله سبحانه ليكون آية للعالمين في العالمين، و ليقيم دولة الحق و العدل علي الأرض بعد ظلم مئات و مئات السنين، أصبح موجودا، و ذا دلائل ربانية تشير الي أنه آية من آيات ربه، وحجة له علي خلقه أجمعين..

و بعد ذلك أخذ امامنا عليه السلام يدرب شيعته علي غيبة ابنه و اختفائه عن أنظارهم بقدرة الله عزوجل؛ فقد حدث يعقوب بن منقوش قائلا:

«دخلت علي أبي محمد و هو جالس علي دكان - أي مصطبة - في الدار، و عن يمينه بيت عليه ستر مسبل، فقلت له: سيدي، من صاحب هذا الأمر؟. - أي من الخلف و الامام بعدك؟ -.

فقال: ارفع الستر.

فرفعته، فخرج علينا غلام خماسي له عشر أو ثمان أو نحو ذلك. واضح الجبين، أبيض الوجه، دري المقلتين - شديد بياضهما - شثن الكفين - غليظهما مع قصر - معطوف الركبتين - مائلهما نحو القدم لغلظهما - في خده الأيمن خال - شامة - و في رأسه ذوائب.. فجلس علي فخذ أبي محمد، فقال لي: هذا صاحبكم.



[ صفحه 40]



ثم وثب فقال له: يا بني ادخل الي الوقت المعلوم!.

فدخل البيت و أنا أنظر الي.

ثم قال لي - الامام عليه السلام -: يا يعقوب، انظر من في البيت.

فدخلت فيه، فما رأيت أحدا!» [25] .

و بهذا و مثله، فتح امامنا عليه السلام باب التفكر بقدرة الله تعالي علي تغييب وليه عن أنظار الناس رغم وجوده حاصرا ناظرا فيما هم فيه و عليه!.

ثم لما رأي مناسبة أخيرة، قد اجتمع فيها أكثر أصحابه وأمنائه بخدمته، شرفهم برؤيته وأنذرهم بغيبته و حذرهم من الشك و الارتياب بأمر الله و مشيئته. فقد حدث محمد بن معاوية بن حكيم، و محمد بن أيوب بن نوح، ومحمد بن عثمان العمري - و هم من الثقات الأبدال -: قالوا:

«عرض علينا أبومحمد ابنه و نحن في منزله، وكنا أربعين رجلا، فقال:

هذا امامكم من بعدي، و خليفتي عليكم، فاتبعوه و أطيعوه و لا تتفرقوا فتهلكوا في أديانكم!.

أما انكم لا ترونه بعد يومكم هذا!.

قالوا: فخرجنا من عنده، فما مضت الا أيام قلائل حتي مضي أبومحمد عليه السلام» [26] .



[ صفحه 41]



أي أنه عليه السلام توفي بعد اعلان هذه الوصية التي تدل علي أسلوبه البارع في تعميق فكرة الغيبة في أذهان شيعته، اذ وعدهم - سلفا - بأنهم لن يجتمعوا بامامهم الخلف عليه السلام للسؤال و الاستفتاء كما هي العادة بين الامام و تابعيه، بل سيكون اتصالهم به بواسطة أبوابه، و نوابه، و سفرائه الذين يمكن - نادرا - أن يتشرفوا برؤيته أثناء الغيبة الصغري، لينقلوا عنه الأوامر و الأحكام.

و هكذا جري امامنا عليه السلام علي تعويد أتباعه علي غيبة ابنه الطويلة الموحشة، و أقامه في قلوبهم و بصائرهم، و في صميم عقيدتهم، بعد أن كان قد بدأ نفسه فأخذ يحتجب عنهم - قبل مضيه بسنوات - و صار يفتيهم بواسطة الوكلاء و المعتمدين الذين كان يقبض منهم الأموال، و يعطيهم الأجوبة علي كل سؤال..

..«قال محمد بن عثمان العمري رحمه الله:

«سمعت أبي يقول: سئل أبومحمد، الحسن بن علي عليه السلام، و أنا عنده، عن الخبر الذي روي عن آبائه عليهم السلام: أن الأرض لا تخلو من حجة لله علي خلقه الي يوم القيامة، و من مات و لم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية؟!.

فقال: ان هذا حق.

فقيل له: يا ابن رسول الله، فمن الحجة و الامام بعدك؟!.

فقال: ابني محمد هو الامام بعدي. من مات و لم يعرفه مات ميتة جاهلية!. أما ان له غيبة يحار فيها الجاهلون، و يهلك فيها المبطلون،



[ صفحه 42]



ويكذب فيها الوقاتون!. ثم يخرج، فكأني أنظر الي الأعلام و الرايات تخفق فوق رأسه!» [27] .

و قبل أن نثب لك الي موضوع آخر، نضع بين يديك نموذجا مما خاطب به امامنا العظيم نجله الكريم عليه السلام هما، في هذا الموضوع، حيث قال له:

«يا بني: ان الله جل ثناؤه لم يكن ليخلي أطباق أرضه، و أهل الجد في طاعته و عباده، بلا حجة يستعمل بها، و امام يؤتم به و يقتدي بسبيل سننته و منهاج قصده.

و أرجو يا بني أن تكون أحد من أعده الله تعالي لنشر الحق وطي الباطل، و اعلاء الدين، و اطفاء الضلال!.

فعليك يا بني بلزوم خوافي الأرض، و اتبع قواصيها؛ فان لكل ولي من أولياء الله تعالي عدوا مقارعا، و ضدا منازعا، افتراضا لثواب مجاهدة أهل نفاقه و خلافه، أولي الالحاد و العناد، فلا يوحشنك ذلك.

و اعلم أن قلوب أهل الطاعة و الاخلاص تفزع اليك كالأطيار الي أوكارها؟. و هم معشر يطلعون بمخايل الذلة و الاستكانة، وهم عندالله بررة يتزيون بأنفس مختلفة محتاجة، و هم أهل القناعة و الاعتصام، استبطنوا الدين فوازروه علي مجاهدة الأضداد، و خصهم الله تعالي باحتمال الضيم في الدنيا ليشملهم اتساع العز في دار القرار، و جبلهم علي خلائق الصبر علي موارد أمورك.

و كأنك بتأييد نصر الله و قد آن، و تيسير الفرج و علو الكعب و قد حان!.



[ صفحه 43]



و كأنك بالرايات الصفر، و الأعلام البيض، تخفق علي أثناء أعطافك ما بين الحطيم و زمزم!.

و كأنك بترادف البيعة، و تصادف الولي، يتناظم عليك الدر في مثاني العقود، و تصافق الأكف في جنبات الحجر الأسود تلوذ بفنائك من ملاء برأهم الله في طهارة الولادة ونفاسة التربة؛ مقدسة قلوبهم من دنس النفاق، مهدية أفئدتهم من رجس الشقاق، لينة عرائكهم للدين، خشنة ضرائبهم علي المعتدين، واضحة بالقبول وجوههم، نضرة بالفضل عيدانهم، يدينون الحق و أهله!.

فاذا اشتدت أركانهم، و تقومت أعمدتهم، قدمت بمكانفتهم طبقات الأمم الي بيعتك في ظلال دوحة بسقت أفنان غصونها علي حافات بحيرة طبرية - و ذلك بعد قتل السفياني -. فعندها يتلألأ صبح الحق، و ينجلي ظلام الباطل، ويقصم الله بك الطغيان، و يعيد معالم الايمان!. فيظهر بك أقسام الآفاق، و يظهر بك السلام للرفاق!.

يود الطفل في المهد لو استطاع اليك نهوضا لنهض، ونواشط الوحش لو وجد نحوك مجازا!.

تهتز بك أطراف الدنيا بهجة، و تهتز بك أعطاف العز نضرة، و تستقر بواقي الحق في قرارها، و تؤوب شوارد الدين الي أوكارها!.

تتهاطل عليك سحائب الظفر، و يخنق كل عدو، و ينصر كل ولي، فلا يبقي علي وجه الأرض جبار قاصد، و لا جاحد فاجر، و لا مارد غائض، و لا شاني ء مبغض، و لا معاند كاشح!. (و من يتوكل علي الله فهو حسبه ان الله بلغ أمره قد جعل الله لكل شي ء قدرا) [28] .



[ صفحه 44]



و ليس أسخف ممن يحاول التعليق علي هذه المناجاة - المناغاة، يلفظها الامام للامام في ساعة علوية ينظر أثناءها الأب الي ما وراء الغيب، و يخاطب الابن بلغة عالية عالية ان نحن مدحناها أنزلنا من قيمتها، و ان حاولنا التعليق عليها ذهبنا برونقها و ببهجة مبناها و رونق معناها، لأنها من طراز كلام أميرالمؤمنين عليه السلام الذي هو دون كلام الخالق، و فوق كلام المخلوق..

و قبل ختام هذا الموضوع، نلفت نظر القاري ء الكريم الي أن الامام العسكري عليه السلام كان حكيما غاية الحكمة في اخفاء أمر ابنه العظيم صلوات الله عليه و تحياته و بركاته، سترا لأمره من سلطان غاشم يطلب رأسه و يترصد ولادته، وينكل بأبيه و بشيعته سجنا و تضييقا و قتلا و تشريدا.. ثم استعمل نفس الحكمة في تعريف شيعته بحال ابنه في غيبته، و عودهم علي الاتصال بامامهم عبر الوكلاء و السفراء، و ربطهم بامامهم المغيب علي هذه الطريقة، ثم أخرج لهم كتاب عمل كان نواة الرسائل العملية التي تحتوي الأحكام و الحلال و الحرام التي يصدرها المراجع من مجتهدي الشيعة للشيعة منذ ذلك العصر و الي الظهور المبارك؛ فقد قال محمد بن الوجناء:

«كتبنا الي أبي محمد عليه السلام نسأله أن يكتب، أو يخرج لنا كتابا نعمل به، فأخرج لنا كتاب عمل».

و قد تحدث الصفواني عن ذلك الكتاب أيضا؛ و اكتفينا بما ذكرناه.



[ صفحه 45]




پاورقي

[1] بحارالأنوار ج 52 ص 219 و 221 و 285 و 204 و ينابيع المودة ج 3 ص 109 و هو في أكثر مصادر بحثنا.

[2] قيل انه ولد في عاشر شهر ربيع الأول، و قيل في شهر رمضان، كما أنه قيل: ولد سنة احدي و ثلاثين و مائتين، و قيل سنة ثلاث و ثلاثين و مائتين. و ذكر بعضهم أنه ولد بسامراء خطا، و الأصح في ذلك كله هو ما ذكرناه. فانظر الارشاد ص 125 و بحارالأنوار ج 50 من ص 232 الي ص 238 و اعلام الوري ص 349 و مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 421 و 422 و 423 و الكافي ج 1 ص 503 و كشف الغمة ج 3 من ص 192 الي ص 223 و الفصول المهمة من ص 284 الي ص 290 و اثبات الوصية ص 207 و في تاريخ الأمم و الملوك ج 11 ص 31 قال: قدم مع والده الي سامراء سنة 233 ه. خطأ. و انظر موجز تواريخ أهل البيت ص 210 و ص 211 و وفاة الامام العسكري ص 4 و الأنوار البهية ص 250 و مدينة المعاجز ص 572 و تذكرة الخواص ص 376.

[3] قيل انها كانت تدعي: حديث أو حديثه، أو حريبة، و ريحانة، أو غزل المغربية، و يقال لها الجدة كما ذكرنا، و ما اخترناه هو الأصح قطعا. فانظر بحارالأنوار ج 50 من ص 235 الي ص 248 و الارشاد ص 315 و اعلام الوري ص 349 و الكافي ج 1 ص 503 و مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 421 الي ص 423 و الفصول المهمة من ص 284 الي ص 290 و كشف الغمة ج 3 من ص 192 الي ص 220 و موجز تواريخ أهل البيت ص 211 و اثبات الوصية ص 217 و 218 و الأنوار البهية ص 250 و تذكرة الخواص ص 376.

[4] اثبات الوصية ص 207 و موجز تواريخ أهل البيت ص 211.

[5] الأنوارالبهية ص 251 - 250.

[6] أنظر بحارالأنوار ج 20 من ص 235 الي ص 238 و ص 310 و الارشاد ص 315 و اعلام الوري ص 349 و الكافي ج 1 ص 203 و مناقب آل أبي طالب ج 4 من ص 421 الي ص 423 و الفصول المهمة من ص 284 الي ص 290 و كشف الغمة ج 3 من ص 192 الي ص 220 و موجز تواريخ أهل البيت ص 211 و اثبات الوصية ص 218 - 217 و المحجة البيضاء ج 4 ص 321 و تذكرة الخواص ص 376 و الأنوار البهية ص 250 و قيل كان نقش خاتمه: أنا الله شهيد أو: ان الله شهيد. و ما ذكرناه هو المرجح عندنا.

[7] بحارالأنوار ج 50 ص 274 و الأنوار البهية ص 257 و اثبات الهداة ج 6 ص 348 - 347.

[8] هو من ولد أبي أيوب الأنصاري، صاحب رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم.

[9] مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 441 - 440 عن غيبة الطوسي من ص 124 الي ص 128 و هو في مدينة المعاجز ص 581 - 580 و اثبات الهداة ج 6 ص 299 - 298.

[10] الأنوار البهية ص 251.

[11] الفصول المهمة ص 290.

[12] كشف الغمة ج 3 ص 194 و في المحجة البيضاء ج 4 ص 321 ما عدا الفقرة الأخيرة نقلا عن مطالب السؤل ص 88.

[13] الأنوار البهية ص 261.

[14] الأسود اللوابد: هي الأسود ذوات اللبد. و الأسد ذو اللبدة هو ذو الشعر المتراكب علي عنقه و بين كتفيه، و هي تجعل له منظرا مهيبا. أما الحصي - هنا - فهي العدد الكثير. و يقال: نحن أكثر منهم حصي، أي: أكثر عددا. و قد قال الأعشي:



و لست بالأكثر منهم حصي

و انما العزة للكاثر



و انظر الخبر في بحارالأنوار ج 50 ص 276 - 275 عن الغيبة للطوسي ص 123 و هو في الفصول المهمة ص 288 والأنوار البهية ص 258 - 257 و في كشف الغمة ج 3 ص 293 شي ء منه و هو في مدينة المعاجز ص 577 - 576 و اثبات الهداء ج 6 ص 97.

[15] سورة النساء: 47 و سورة الأحزاب: 37.

[16] أنظر كتابنا «يوم الخلاص» تجد ذلك مفصلا.

[17] بحارالأنوار ج 52 ص 160 و اعلام الوري ص 412.

[18] الأنوارالبهية ص 258.

[19] بحارالأنوار ج 50 ص 314 عن مهج الدعوات ص 345 و عن الغيبة للطوسي ص 144 و ص 149.

[20] اعلام الوري ص 414.

[21] بحارالأنوار ج 50 ص 314 عن مهج الدعوات ص 345 و عن الغيبة للطوسي ص 144 و ص 149 و هو في مدينة المعاجز ص 572 و اثبات الهداة ج 6 ص 297.

[22] بحارالأنوار ج 51 ص 26 و ج 52 ص 23.

[23] اعلام الوري ص 412 و كشف الغمة ج 3 ص 316 و المحجة البيضاء ج 4 ص 339 عن الغيبة للطوسي ص 146 و هو في ينابيع المودة ج 3 ص 120 و اثبات الهداة ج 6 ص 297 ومدينة المعاجز ص 573 و مصادر أخري أشرنا اليها في كتابنا «يوم الخلاص».

[24] الاحتجاج ج 2 ص 462 - 461.

[25] اعلام الوري ص 412 و كشف الغمة ج 3 ص 417 و بحارالأنوار ج 52 ص 22 و ينابيع المودة ج 3 ص 124 و مدينة المعاجز ص 573 ومصادر غيرها ذكرناها في كتابنا «يوم الخلاص».

[26] كشف الغمة ج 3 ص 317 و اعلام الوري ص 414 وبحارالأنوار ج 51 ص 349 و ج 52 ص 29 و الكافي ج 1 ص 329 عن الغيبة للطوسي ص 217 و هو في ينابيع المودة ج 3 ص 123 - 122.

[27] بحارالأنوار ج 51 ص 160 و اعلام الوري ص 415 و انظر بقية مصادره في كتابنا «يوم الخلاص».

[28] وفاة العسكري من ص 48 الي ص 50 و بحارالأنوار ج 52 ص 35 وتراجع مصادره في كتابنا «يوم الخلاص».