بازگشت

وعمره القصير!


عاصر الامام العسكري عليه السلام ثلاثة من خلفاء بني العباس، هم: المعتز، و المهتدي، و المعتمد.

فقد كانت في سني امامته بقية ملك المعتز ابن المتوكل، ثم ملك المهتدي ابن الواثق أحد عشر شهرا و ثمانية و عشرين يوما، ثم ملك المعتمد ابن المتوكل عشرين سنة و أحد عشر شهرا! و بعد مضي خمس سنين من ملك المعتمد [1] ، قام هذا الخليفة و من كان حوله من قراصنة الأمة في العصر الظالم بدس السم للامام عليه السلام في أول شهر ربيع الأول من سنة ستين و مائتين [2] ، فقبضه الله تعالي اليه شهيدا، و أعد لظالميه ما يستحقونه من جزاء تلك الجريمة النكراء!.

و لا أدري ما هو الجواب الذي اعدوه لجده رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، يوم يلقونه بدم ابنه الزكي عليه السلام!.



[ صفحه 46]



و قد علل امامنا عليه السلام سبب قتله قبل قتله، اذ قال يوما لبعض أصحابه:

«وضع بنوأمية و بنوالعباس سيوفهم علينا، لأنهم كانوا يعلمون أنه ليس لهم في الخلافة حق، فيخافون أن تستقر في مركزها؛ و سعوا في قتل أهل بيت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و ابادة نسله طمعا في الوصول الي منع تولد القائم عليه السلام أو قتله، فأبي الله أن يكشف أمره لواحد منهم الا أن يتم نوره ولو كره المشركون» [3] .

فماذا جني أولئك الحاقدون علي الله تعالي اذ فضل غيرهم عليهم! و ماذا اجتني المحاربون لرسوله صلي الله عليه و آله و سلم اذ بلغ ما جاءه عن ربه، سوي أنهم حملوا أوزار تلك الآثام العظمي ليقابلوا بها الله و رسوله يوم الوقفة الكبري؟!.

و لا أعلم كيف وافق معاصروهم من المسلمين، علي ما ادعوه من خلافة نبيهم بعد أن رأوهم يحكمون بخلاف دينه، و ينكلون بذريته و بأصحابه و أتباعه من المؤمنين؟!.

و اذا افترضنا أن خلفاء ذلك الزمان: كانوا ملحدين في دين الله من أجل السلطان، فما بال غيرهم من حملة الدين و ذوي العمائم و اللحي من المتفقهين؟!.

انه لا عجب أن يضل بعض الناس في الأمة.. و لكن أن تضل الأكثرية بضلال الأقلية فذلك أعجب!.

و أن يسكت البعض عن الأمر بالمعروف، فذلك شي ء مألوف.. أما أن يسكت جميع ذوي الألباب فذلك أمر يدعو الي الارتياب!.



[ صفحه 47]



و اذا مر هؤلاء - جميعا - في هذه الدنيا بدون عقاب، فلن ينفلتوا - جميعا - في الآخرة دون حساب... و عقاب!.

و لمستفهم أن يقول: لم يشرب الامام السم اذا دس اليه من أعدائه، مازال يعلم ما كان و ما يكون؟.

و كيف يلقي بنفسه الي التهلكة، و هو يأمر الناس بعدم جواز ذلك؟!.

و هذا الاستفهام في محله.. و لكن نجيب عليه بأمرين تيسرا لنا:

أولهما: أن الامام لا يقاس بالبشر العاديين، فان له أحكاما تختلف عن أحكامهم؛ وهي خاصة به كسفير لله في أرضه، مرتبط بأوامر السماء حين ابتداء سفارته و حين انتهائها. و لذلك فانه يستسلم لقضاء الله تعالي و قدره بعد اتمام دوره الريادي و انتهاء أمد وظيفته. و بهذا لا يكون قد ألقي بنفسه الي التهلكة، بل علم سبب موته - كما يعلم أسباب موت الآخرين - كما قدره الله سبحانه له، في حين أن الآخرين يجهلون أسباب موتهم عند حدوثها، حتي ولو كانت تلك الأسباب ناتجة عن رغباتهم، كأن يأكل الواحد أكلة يتسمم منها، أو أن يشرب الثاني علي عطش شديد فيشرق بالماء و يموت، أو أن يتناول الآخر عنبا بشره الي العنب فتسقط حبة في مجري نفسه وتخنقه... أو كأن يهدي أب لابنه سيارة يوم عرسه، فيقودها جذلا فرحا فيصدمها بعمود أو بجدار فيعجنها مع لحمه و دمه و لحم عروسه ودمها.. فيموت هؤلاء - و غيرهم - بقضاء الله تعالي و قدره الذي يجهلونه تمام الجهل، في حين أن الامام يعرف سبب منيته، و لكنه يمتثل أمر مولاه، و يغادر دنياه و أوضارها، الي آخرته ونعيمها و رضوانها، و هو علي بينة من أمره من أوله الي منتهاه في حين أن الآخرين لا يعلمون من ذلك الا قليلا.



[ صفحه 48]



وكذلك كان شأن أميرالمؤمنين، و شأن ابنه الحسين عليه السلام هما اللذين برزا الي مضجع القتل امتثالا لقضاء الله تعالي وقدره، و هو شأن أولياء الله تعالي و أصفيائه جميعا، بل ان في المروي عندنا أن المؤمن لا يقبضه الله تعالي اليه، حتي يرضي هو بالموت ويتمناه و يطلبه بعد أن يقابل جحيم الدنيا بنعيم الآخرة، و بعد أن يدرك أن الدنيا سجن المؤمن، و جنة الكافر.

و ثانيهما: أن الامام عليه السلام أوضح لنا هذه النكتة الدقيقة، و جلا بعض غوامضها التي يوقفنا عندها شيطان الجهل بأوامر الغيب. فقد قال أحمد بن محمد بن ابراهيم بن أبي محمود:

«قلت: الامام يعلم متي يموت؟.

قال - عليه السلام -: نعم.

فقلت: بحيث ما بعث اليه يحيي بن خالد - البرمكي - برطب و ريحان مسمومين، علم به؟!.

قال: نعم.

قلت: فأكله و هو يعلم؟! فكيف يكون معينا علي نفسه؟!!

فقال: لا يعلم قبل ذلك ليتقدم فيما يحتاج اليه. فاذا جاء الوقت ألقي الله علي قلبه النسيان ليقضي فيه الحكم» [4] .

و هكذا يهون الأمر علي المتعجب، اذا أضاف الي ما قلناه بمقالة النسيان التي ذكرها الامام عليه السلام في رده علي استهجان صاحبه، مضافا الي أن ذلك يكون قرار انتهاء سفارته علي الخلق، فليس للسفير أن يعترض علي انهاء مدته.



[ صفحه 49]



و في كل حال لا يجوز أن ينصب لومنا علي القتيل، لئلا نلهو عن القاتل و نكتب في تقريرنا: فر القاتل، و قبضنا علي القتيل!. فبذلك نعذر القتلة و المجرمين: من قابيل، الي يزيد بن معاوية، الي يزيدي كل عصر..

نعم عرف امامنا عليه السلام موعد اغتياله لأنه أمر محتوم صادر مبرما من عند ربه عز و علا، فان سفارته الالهية لا بد أن تنتهي في وقت معين لا ينخرم.. تماما كما تنتهي سفارة كل سفير لأية دولة اذا بلغ سن التقاعد و الاعفاء من العمل.

و قد أعلم امامنا عليه السلام بذلك - أول من أعلم - أمه رضي الله تعالي عنها. فقد روي محمد بن أبي الزعفران أنها قالت:

«قال لي أبومحمد يوما من الأيام: تصيبني في سنة ستين حزازة - أي غيظ - أخاف أن أنكب فيها نكبة. فان سلمت منها فالي سنة سبعين. فأظهرت الجزع و بكت.

فقال - عليه السلام.. لا بد من وقوع أمر الله، فلا تجزعي.

فلما كان أيام صفر، أخذها المقيم المقعد - أي الحزن الشديد - و جعلت تقوم و تقعد، و تخرج في بعض الأحايين الي الجبل، و تجسس الأخبار، حتي ورد عليها الخبر» [5] .

و يبدو لك اللين و الرحمة في كلام الامام عليه السلام مع والدته حين لا يفجأها بالأمر فيفجعها بمصيبة واقعة في وقت معين بدقة، بل يترك لها فسحة ينتعش فيه أملها ما بين سنة الستين، و سنة السبعين.. و في الوقت نفسه يورد



[ صفحه 50]



لنا عبارة: لابد من وقوع أمر الله، التي تحمل كل المعاني التي يمكن أن يدور حولها تفكيرنا لتبرير قبول الامام بالموت و بملاقاة وجه ربه الذي انتدبه لأمره. ثم اختار له جواره في مقعد الصدق بساحة رضوانه.

و كذلك قال أحمد بن اسحاق بن مصقلة - في حديث -:

«.. ثم أمر أبومحمد عليه السلام والدته بالحج في سنة تسع و خمسين و مائتين، و عرفها ما يناله في سنة ستين. ثم سلم الاسم الأعظم و المواريث و السلاح الي القائم الصاحب عليه السلام، و خرجت أم أبي محمد مع الصاحب» [6] عليه السلام هما الي مكه: و كان أحمد بن مطهر، أبوعلي، المتولي لما يحتاج اليه الوكيل.

فلما بلغوا بعض المنازل من طريق مكة، تلقي... الفوافل فأخبروهم بشدة الخوف و قلة الماء فرجع أكثر الناس، الا من كان في الناحية - أي في قافلة الامامة - فانهم تقدموا... عليهم أمره عليه السلام بالنفوذ» [7] .

و من الطبيعي أن تنفذ أسرة الامام سلمة لأن علي رأسها ابنه الميمون الطلعه [8] الذي حمل اسم الله الأعظم ومواريث السماء.

و يلاحظ أن الامام عليه السلام كان بتهيأ للأمر العظيم.. الذي هو لقاء وجه ربه الكريم، و يعد لذلك و يستعد، و يرتب أمور والدته و ابنه قبل أن يرحل عن دار سوء و قرنا، سوء يعلم أنهم سيخيفون نساءه و حواريه بعد تنفيذ مؤامرتهم الخبيثة.





[ صفحه 51]



و من بعد اخبار أمه رضي الله تعالي عنها بمجمل ما يجري عليه، نوه بذلك لأصحابه في مناسبات شتي. فعن أبي غانم، قال:

«سمعت أبامحمد عليه السلام يقول: في سنة مائتين و ستين تفترق شيعتي.

و فيها قبض أبومحمد عليه السلام، و تفرقت شيعته و أنصاره. فمنهم من انتهي الي جعفر - أخيه - الذي ادعي الولاية العامة، ومنهم من أتاه و شك، و منهم من وقف علي الحيرة، و منهم من ثبت علي دينه بتوفيق الله عزوجل» [9] .

وكان عليه السلام قد قال لشيعته في تلك السنة بالذات:

«أمرناكم بالتختم في اليمين و نحن بين ظهرانيكم؛ و الآن نأمركم بالتختم في الشمال لغيبتنا عنكم، الي أن يظهر الله أمانا و أمركم، فانه من أدل دليل عليكم في ولايتنا أهل البيت.

فخلعوا خواتيمهم من أيمانهم بين يديه، و لبسوها في شمائلهم.

و قال عليه السلام: حدثوا بذلك شيعتنا» [10] .

فما أجمل أن يتميز شيعته عن غيرهم بعلامة فارقة - كالتختم بالشمال - ليعرف بعضهم بعضا دون سؤال و جواب في ذلك الظرف العصيب الذي كانوا يمرون به من ظلم الحكام و غشمهم!.

و من البديهي أن من يعرف آجال الناس لا يخفي عليه موعد أجله، فان الأئمة عليهم السلام أوتوا علم المنايا و البلايا فيما أوتوه من المواهب الربانية التي اختصهم الله تعالي بها. و كانوا يخبرون الكثيرين بمواعيد موتهم، أو موت



[ صفحه 52]



من يخصهم، أو موت أحد أعدائهم، لارجما بالغيب، بل قطعا و جزما، لأن ذلك في أيديهم، و في كتاب لديهم مسطور و محفوظ في الصدور، اذ لا يغيب عنهم شي ء باذن ربهم عز اسمه، الا الذي لا شأن به لغير الخالق العظيم عزوعلا.

.. وبالفعل قد اعتل الامام عليه السلام فجأة في أول شهر ربيع الأول من سنة مائتين و ستين، و توفي ليلة الجمعة لثمان خلون منه، متأثرا بالسم الذي جعله خليفة الزمان من جنده كما جعله آباؤه السمامون من قبله.. و دفن في البيت الذي دفن فيه أبوه من دارهما بسر من رأي، بعد أن كان عمره أقل من ثمان و عشرين سنة [11] ، و مقامهما الشريف مزار مقدس الي اليوم، ترتفع قبابه المذهبة في الآجواء، و يؤمه في السنة مئات ألوف المؤمنين الذين يطلبون بذلك البركة و الزلفي لدي سادة الخلق و رواد الحق.

و كان مقامه مع أبيه عليه السلام ثلاثا و عشرين سنة و أشهرا، و عاش بعده ست سنين، و قيل خمس سنين و ثمانية أشهر و ثلاثة عشر يوما بالضبط، و الله أعلم.

قال ابن الأثير في تاريخه «الكامل»:

«في سنة 260 هجرية توفي الحسن بن علي بن محمد بن علي بن



[ صفحه 53]



موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام» [12] .

ثم - بعد أن ذكره و عرف بنسبه الشريف تفصيلا كما تري - أعمي الشيطان قلبه عن معرفته بالذات، فقل بعد هذا الكلام بقليل: «و فيها توفي أبومحمد العلوي العسكري، و هو أحد الأئمة الاثني عشر علي مذهب الامامية، و هو والد محمد الذي يعتقد أنه المنتظر بسرداب سامراء» [13] .

فقد رأي بنظره الأحوال - المائل عن الحق - أن المتوفيين اثنان: أحدهما الحسن بن علي... الخ، و ثانيهما أبومحمد العلوي!. ثم لفرط تجاهله للحق - رمي الشيعة بفرية انتظار خروج امامهم من السرداب بدافع من عصبية أبي جهل و أبي لهب و بقية الفجار من ذلك الجيش الجرار الذي نافق علي نفسه و علي غيره، فضل وأضل.. و قريب - جدا - هو ذلك اليوم الذي يخرج فيه الامام المنتظر لدولة الحق، ليدمر السراديب و الأنفاق و الملاجي ء التي يختبي ء فيها من سيفه أولئك المنافقون!.

و كذلك قال المسعودي في مروج الذهب:

«و في سنة ستين و مائتين قبض أبومحمد، الحسن بن علي عليه السلام، في خلافة «المعتمد»، و هو ابن تسع و عشرين سنة. و هو أبوالمهدي المنتظر، الامام الثاني عشر، بعد القطيعة من الامامية و هم جمهور الشيعة. و قد تنازع هؤلاء في المنتظر من آل محمد صلي الله عليه و آله و سلم بعد وفاة الحسن بن علي عليه السلام هما، وافترقوا عشرين فرقة» [14] .



[ صفحه 54]



و جاء في كتاب «كمال الدين» ما نصه:

«وجدت مثبتا في بعض الكتب المصنفة في التواريخ، عن محمد بن الحسين بن عباد، أنه قال:

مات أبومحمد عليه السلام يوم الجمعة مع صلاة الغداة، و كان في تلك الليلة قد كتب كتبا كثيرة الي المدينة... و لم يحضره الا صقيل الجارية - أي أم الحجة عجل الله تعالي فرجه - و عقيد الخادم، و من علم الله غيرهما.

قال عقيد: فدعا بماء قد أغلي بالمصطكي، فجئنا به.

فقال: أبدأ بالصلاة. جيئوني به - أي بالماء للوضوء -.

فجئنا به، و بسطنا في حجره المنديل، و أخذ من صقيل الماء فغسل به وجهه و ذراعيه مرة مرة، و مسح علي [رأسه] وقدميه مسحا. و صلي صلاة الصبح علي فراشه.

و أخذ القدح ليشرب، فأخذ القدح يضرب ثناياه، و يده ترتعش!.

فأخذت صقيل القدح من يده، و مضي من ساعته صلي الله عليه.... الخ...» [15] و الحديث طويل تجده في غير هذا المكان، جزءا من حادثة هي احدي تمثيليات قصر الحكم و الظلم.

و اذا أردت أن تشاهد تمثيلية القصر، التي تمت بها عملية الغدر، فسأترك خشبة المسرح ليظهر عليها عدو كاره للامام عليه السلام، يروي لك ترتيب المكيدة المحبوكة من قبل الخليفة مع وزرائه، ومستشاريه، وأطبائه،



[ صفحه 55]



و قواد عسكره، و قضاة الشرع في قصره، ليمثل كل منهم دوره بدقة و اهتمام، و ليوهموا الناس أنهم كانوا حريصين - كل الحرص - علي راحة الامام و سلامته و بقائه حيا!.

أجل، يظهر لك علي المسرح خصم للعلويين عنيد، و كاره للامام شديد، فيقدم شهادته التي توضح معالم صورة ما جري يومئذ، بعد مقدمة يبين فيها عظمة الامام عليه السلام التي كان يعرفها الموالي و المعادي علي حد سواء.. فقد روي محمد بن يعقوب، عن الحسين بن محمد الأشعري، و محمد بن يحيي، وغيرهما [16] ، أنهم قالوا:

«كان أحمد بن عبيدالله بن خاقان [17] علي الضياع و الخراج في قم - أي مديرا للدخل و الضرائب و المال في الناحية، و معتمدا لاستيفاء ذلك - فجري في مجلسه ذكر العلوية و مذاهبهم. و كان شديد النصب و الانحراف عن أهل البيت عليهم السلام، فقال:

ما رأيت و ما عرفت بسر من رأي رجلا من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا، في هديه و سكونه، و عفافه، و نبله، و كرمه، وكبرته عند أهل بيته و السلطان و جميع بني هاشم، و تقديمهم اياه علي ذوي السن منهم و الخطورة و كذلك كانت حاله عند القواد و الوزراء و الكتاب و عامة الناس.

فأذكر أني كنت يوما قائما علي رأس أبي - أي يحيي بن خاقان، الوزير



[ صفحه 56]



المقرب - و هو يوم مجلسه للناس، اذ دخل عليه حجابه فقالوا: أبومحمد، ابن الرضا بالباب!.

فقال بصوت عال: ائذنوا له.

فتعجبت مما سمعت منهم، و من جسارتهم أن يكنوا رجلا بحضرة أبي، و لم يكن يكني عنده الا خليفة، أو ولي عهد، أو من أمر السلطان أن يكني عنده.

فدخل رجل أسمر اللون، أعين، حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن، حديث السن، له جلالة و هيبة حسنة!.

فلما نظر اليه أبي قام فمشي اليه خطي؛ و لا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم و لا القواد و لا بأولياء العهد!.

فلما دنا منه عانقه و قبل وجهه و صدره، و أخذ بيده فأجلسه علي مصلاه الذي كان عليه، و جلس الي جنبه مقبلا عليه بوجهه؛ و جعل يكلمه و يكنيه و يفديه بنفسه، و أنا متعجب مما رأي منه، اذ دخل عليه الحاجب فقال: «الموفق» [18] قد جاء.

و كان «الموفق» اذا دخل علي أبي تقدم حجابه و خاصة قواده فقاموا بين مجلس أبي و بين باب الدار سماطين - أي صفين - الي أن يدخل و يخرج.

فلم يزل أبي مقبلا علي أبي محمد يحدثه حتي نظر الي غلمان الخاصة، فقال حينئذ: اذا شئت فقم جعلني الله فداك يا أبامحمد!. ثم قال لحجابه: خذوا به خلف السماطين حتي لا يراه هذا. - يعني «الموفق» -. فقام، و قام أبي فعانقه و قبل وجهه، ومضي.



[ صفحه 57]



فقلت لحجاب أبي و غلمانه: ويلكم، من هذا الذي كنيتموه بحضرة أبي، و فعل أبي به هذا الفعل؟!.

فقالوا: هذا رجل علوي يقال له: الحسن بن علي، يعرف بابن الرضا.

فازددت تعجبا، و لم أزل يومي ذاك قلقا متفكرا في أمره و أمر أبي، وما رأيت فيه، حتي كان الليل و كانت عادته أن يصلي العتمة، ثم يجلس و ينظر فيما يحتاج اليه من المؤامرات - أي المشاورات - و ما يرفعه الي السلطان.

فلما صلي و جلس ونظر، جئت فجلست بين يديه، و ليس عنده أحد.

فقال لي: يا أحمد، لك حاجة؟.

قلت: نعم يا أبه، فان أذنت لي سألتك عنها.

فقال: قد أذنت يا بني، فقل ما أحببت.

قلت: يا أبه، من الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الاجلال و الاكرام و التبجيل، و فديته بنفسك و أبويك؟!.

فقال: يا بني، ذاك امام الرافضة. ذلك الحسن بن علي، المعروف بابن الرضا.

و سكت ساعة، و أنا ساكت، ثم قال: يا بني، لو زالت الخلافة عن خلفاء بني العباس، ما استحقها أحد من بني هاشم غيره!. فانه يستحقها لفضله، و عفافه، و هديه، و صيانته لنفسه، و زهده، و عبادته، و جميل أخلاقه، و صلاحه!. ولو رأيت أباه لرأيت رجلا جليلا نبيلا، فاضلا.

فازددت قلقا و تفكرا، و غيظا علي أبي مما سمعت منه فيه، و رأيت من فعله و قوله فيها ما قال.. فلم يكن عندي همة بعد ذلك الا السؤال عن خبره، و البحث عن أمره!.



[ صفحه 58]



فما سألت أحدا من بني هاشم، و القواد، و الكتاب، و القضاة، و الفقهاء، و سائر الناس، الا وجدته عندهم في غاية الاجلال و الاعظام، و المحل الرفيع، و القول الجميل، و التقديم له علي جميع أهل بيته و مشايخهم و غيرهم، و كل يقول: هذا امام الرافضة!. فعظم قدره عندي، اذ لم أر وليا، و لا عدوا، الا و هو يحسن القول فيه و الثناء عليه! [19] .

فقال له بعض من حضره في مجلسه من الأشعريين: يا أبابكر، ما حال أخيه جعفر؟.

فقال: و من جعفر فيسأل عن خبره؟!. أو يقرن بالحسن؟!. ان جعفرا معلن الفسق، فاجر، ماجن، شريب للخمور، أقل من رأيت من الرجال، و أهتكهم لنفسه، خفيف قليل في نفسه!.

[و فيما يلي يبدأ عبيدالله بن خاقان برسم صورة الغدر السلطاني المدبر بليل لاغتيال الامام عليه السلام و قتله، فيقول:]

لقد ورد علي السلطان و أصحابه في وقت وفاة الحسن بن علي عليه السلام ما تعجبت منه، و ما ظننت أنه يكون منه!. و ذلك أنه لما اعتل بعث - أي السلطان - الي أبي أن ابن الرضا عليه السلام قد اعتل - و ذلك حين أخبره جواسيسه أن سمه قد فعل فعله -. فركب من ساعته فبادر الي دار الخلافة، ثم رجع مستعجلا و معه خمسة من خدام أميرالمؤمنين، كلهم من ثقاته و خاصته، و فيهم «نحرير» [20] فأمرهم بلزوم دار الحسن بن علي و تعرف خبره و حاله!. و بعث الي نفر من المتطببين فأمرهم بالاختلاف اليه و تعاهده صباحا



[ صفحه 59]



و مساء!. - و هنا تبدو دقة الحبك في المؤامرة النكراء، اذا بدأ دار الخلافة يجمع شهود الزور من كل الفئات! -.

فلما كان بعد ذلك بيومين أو ثلاثة، جاءه من أخبره أنه قد ضعف، فركب حتي بكر اليه، ثم أمر المتطببين بلزوم داره، و بعث الي قاضي القضاة - شاهد الزور الأكبر في قصره - فأحضره مجلسه وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممن يوثق به في دينه، و أمانته، و ورعه -!!!! - فأحضرهم و بعث بهم الي دار الحسن و أمرهم بلزومه ليلا و نهارا؛ فلم يزالوا هناك حتي توفي عليه السلام.

فلما ذاع خبر وفاته، صارت سر من رأي ضجة واحدة: مات ابن الرضا!!!

و عطلت الأسواق، و ركب بنوهاشم، و القواد، و الكتاب، و المعدلون، و سائر الناس، الي جنازته. و بعث السلطان الي داره من فتشها و فتش حجرها و ختم علي جميع ما فيها!. و طلبوا أثر ولده، و جاؤوا بنساء يعرفن الحمل، فدخلن علي جواريه فنظرن اليهن. فذكر بعضهن أن هناك جارية بها حبل، فأمر بها فجعلت في حجرة، و وكل بها «نحرير» الخادم و أصحابه و نسوة معهم!. - يريد خليفة الزمان أن يطفي ء بذلك نور الله، و يقتل وليه في أرضه ارصادا لما جاء عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و حيا من ربه تبارك و تعالي!!!! -.

ثم أخذوا بعد ذلك في تهيئته، و كانت سر من رأي يومئذ شبيهة بالقيامة!.

فلما فرغوا من ذلك، بعث السلطان الي أبي عيسي، ابن المتوكل، فأمره بالصلاة عليه [21] فلما وضعت الجنازة للصلاة عليه، دنا أبوعيسي



[ صفحه 60]



منه، فكشف عن وجهه فعرضه علي بني هاشم من العلوية و العباسية، و القواد، و الكتاب، و القضاة، و المعدلين، و قال: هذا الحسن بن علي بن محمد بن الرضا، مات حتف أنفه علي فراشه. حضره من حضر من خدم أميرالمؤمنين و ثقاته: فلان و فلان، و من القضاة فلان و فلان، و من المتطببين فلان و فلان!!! - و تم بذلك اعلان شهادة الزور العظمي -. ثم غطي وجهه، و قام فصلي عليه وأمر بحمله. و حمل من وسط داره، و دفن في البيت الذي دفن فيه أبوه..

- ثم أكمل عبيدالله بن خاقان سرد الرواية قائلا: -

فجاء جعفر بعد ذلك الي أبي و قال له: اجعل لي مرتبة أبي وأخي، وأوصل اليك في كل سنة عشرين ألف دينار. فزبره أبي - أي زجره و انتهره - وأسمعه كلاما خشنا كريها، و قال له: يا أحمق، ان السلطان جرد سيفه و سوطه في الذين يزعمون أن أباك وأخاك أئمة لردهم عن ذلك!. وجهد أن يزيل أباك و أخاك عن تلك الرتبة فلم يقدر و لا تهيأ له ذلك!. فان كنت عند شيعة أبيك وأخيك اماما، فلا حاجة بك الي سلطان أن يرتبك مراتبهما و لا غير سلطان. و ان لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بنا!. و استقله أبي عند ذلك و استضعفه، وأمر أن يحجب عنه. فلم يأذن له بالدخول عليه حتي مات أبي..

.. وخرجنا و الأمر علي تلك الحال، و السلطان يطلب أثر ولد الحسن بن علي حتي اليوم، و هو لا يجد الي ذلك سبيلا، و شيعته مقيمون علي أنه مات و خلف ولدا يقوم مقامه بالامامة» [22] .



[ صفحه 61]



وبهذه الشهادة المفصلة يظهر لك كيف هب سلطان القصر و من فيه، حين علموا بسريان سمهم في جسم الامام صلوات الله عليه.. فركب الوزير، و أخبر الأمير، و صدرت الأوامر المعجلة، فخرجت فرق الوزراء، و القواد، والكتاب، و القضاة و المعدلين، والمتطببين.. ليكذبوا - جميعا - علي الناس و يقولوا لهم: مات الامام علي فراشه!.

فيا ويلهم من الله، في يوم الله!!!

... و لما مات عليه السلام غسله ابنه صاحب الزمان عجل الله تعالي فرجه - و حضر غسله عثمان بن سعيد العمري رضي الله عنه وأرضاه، و تولي جميع أمره في تكفينه و تحنيطه و تقبيره.

و قال الشيخ علي السيد آبادي في المقنع:

«ان الحسن بن علي نص علي ولده الخلف الصالح عليه السلام، و جعل وكيله أبامحمد، عثمان بن سعيد العمري، الوسيط بينه و بين شيعته في حياته.

فما أدركته الوفاة أمره فجمع شيعته و أخبرهم أن لولده الخلف الصالح الأمر من بعده، و أن أبامحمد، عثمان بن سعيد العمري وكيله، و هو بابه و السفير بينه و بين شيعته، فمن كانت له حاجة قصده كما كان يقصده في حال حياته، و سلم اليه جواريه.



[ صفحه 62]



فلما قبض عليه السلام، تكلم أخوه جعفر و ادعي الامامة لنفسه، و بذل للمعتمد بذلا شاع ذكره، فقال له وزير المعتمد: قد كان «المتوكل» و غيره، يروم مسخ ناموس أخيك فلم يصح لهم. فاستمل أنت شيعته بما تقدر عليه.

فلما لم يبلغ غرضه سعي بجواري أخيه و قال: في جملة الجواري جارية اذا ولدت ولدا يكون ذهاب دولتكم علي يده!. فأنفذ «المعتمد» الي عثمان بن سعيد، و أمره أن ينقلهن الي دار القاضي و بعض الشهود - من النساء - حتي يستبرئهن بالوضع. فسلمهن الي ذلك العدل (؟!!) فأقمن عنده سنة، ثم ردهن الي عثمان بن سعيد، لأن الولد المطلوب كان قد ولد قبل ذلك بست سنين، و أظهره أبوه الحسن عليه السلام لخاصة شيعته، و أراهم شخصه، و عرفهم بأنه الذي يقصد اليه منه.

فلما تسلم عثمان بن سعيد الجواري، و فيهن أم صاحب الأمر عليه السلام، نقلهن الي مدينة السلام. وكانت الشيعة تقصده من كل بلد بقصص و حوائج، وكانت الأجوبة تخرج اليهم علي يده» [23] .

و قد قال عثمان بن سعيد قدس الله نفسه الزكية لعبد الله بن جعفر الحميري:

«ان الأمر عند السلطان أن أبامحمد عليه السلام مضي ولم يخلف ولدا، و قسم ميراثه و أخذه من لا حق له به، و صبر علي ذلك. و هو ذا عياله يجولون، و ليس أحد يجسر أن يتعرف اليهم، أو ينبئهم شيئا!» [24] .

ذلك أن جعفر بن علي - الكذاب - استولي علي تركة أخيه، و شنع علي أهله و كافة أصحابه بعد أن رفضوا ادعاءه الامامة و لم يجتمع عليه اثنان،



[ صفحه 63]



فأغري بهم السلطة و جر عليهم و علي عائلة أخيه كل عظيمة من اعتقال و حبس و تهديد و تشريد [25] كما رأيت..

فليعد بنوالعباس وثائق الدفاع عن أنفسهم أمام الله في يوم العدل، حيث يبعثون و في رقابهم أمثال هذه الجرائم الكبري!. فانه (ان كانت الا صيحة واحدة فاذا هم جميع لدينا محضرون، فاليوم لا تظلم نفس شيئا و لا تجزون الا ما كنتم تعملون) [26] .

و قال أبوالحسن،علي بن محمد بن حباب:

حدثنا أبوالأديان، قال:

كنت أخدم الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، و أحمل كتبه الي الأمصار. فدخلت اليه في علته التي توفي فيها صلوات الله عليه، فكتب معي كتبا، و قال:

تمضي الي المدائن؛ فانك ستغيب خمسة عشر يوما، فتدخل الي سر من رأي يوم الخامس عشر و تسمع الواعية - أي صراخ الباكية النادبة - في داري، و تجدني علي المغتسل.

فقلت: يا سيدي، فاذا كان ذلك، فمن؟! - أي من الامام بعدك؟!.

فقال: من طالبك بجواب كتبي فهو القائم بعدي.

فقلت: زدني.



[ صفحه 64]



فقال: من يصلي علي فهو القائم بعدي.

فقلت: زدني.

فقال: من أخبر ما في الهميان [27] فهو القائم بعدي.

ثم منعتني هيبته أن أسأله ما في الهميان، و خرجت بالكتب الي المدائن.

وأخذت جواباتها، و دخلت سر من رأي يوم الخامس عشر كما قال لي عليه السلام، فاذا أنا بالواعية في داره، و اذا أنا بجعفر بن علي، أخيه، بباب الدار، و الشيعة يعزونه و يهنئونه!

فقلت في نفسي: اذا كان هذا الامام فقد حالت الامامة - أي انحرافت عن قصدها - لأني كنت أعرفه يشرب النبيذ، و يقامر في الجوسق - أي القصر - و يلعب بالطيور. فتقدمت فعزيت و هنأت فلم يسألني عن شي ء.

ثم خرج عقيد - الخادم - فقال: يا سيدي قد كفن أخوك، فقم للصلاة عليه.

فدخل جعفر بن علي و الشيعة من حوله، يقدمهم السمان [28] ، و الحسن بن علي قتيل «المعتصم» المعروف بسلمة.

فلما صرنا بالدار اذا نحن بالحسن بن علي عليه السلام علي نعشه مكفنا. فتقدم جعفر بن علي ليصلي علي أخيه، فلما هم بالتكبير خرج صبي بوجهه سمرة، و بشعره قطط، و بأسنانه تفليج فجبذ رداء جعفر بن علي - أي جذبه و شده - و قال: تأخر يا عم، فأنا أحق بالصلاة علي أبي!.



[ صفحه 65]



فتأخر جعفر و قد اربد وجهه - أي صار أغبر أسود! - فتقدم الصبي فصلي عليه، و دفن الي جانب قبر أبيه.

ثم قال: يا بصري، هات جوابات الكتب التي معك. فدفعتها اليه و قلت في نفسي: هذه اثنتان - أي صار عنده علامتان: الصلاة و طلب الكتب -. و بقي الهميان.

ثم خرجت الي جعفر بن علي و هو يزفر، فقال له حاجز الوشاء: يا سيدي، من الصبي؟!. ليقيم الحمية عليه. - كأنه كان ينكر ولادته عليه السلام -.

فقال: و الله ما رأيته قط، و لا عرفته.

فنحن جلوس اذ قدم نفر من قم، فسألوا عن الحسن بن علي، فعرفوا موته، فقالوا: فمن؟. فأشار الناس الي جعفر بن علي. فسلموا عليه و عزوه و هنأوه، و قالوا: معنا كتب و مال، فتقول ممن الكتب؟. و كم المال؟. فقام ينفض أثوابه و يقول: يريدون منا أن نعلم الغيب!.

فخرج الخادم فقال: معكم كتب فلان و فلان، و هميان فيه ألف دينار، عشرة دنانير منها مطلسة - أي ذهب أثر نقشها -. فدفعوا اليه الكتب و المال، و قالوا: الذي وجه بك لأجل ذلك هو الامام.

فدخل جعفر بن علي علي «المعتمد» وكشف له ذلك. فوجه «المعتمد» خدمه فقبضوا علي صقيل الجارية و طالبوها بالصبي، فأنكرته وادعت حملا بها لتغطي علي حال الصبي، فسلمت الي ابن أبي الشوارب القاضي. و جعلت نساء «المعتمد» و خدمه، ونساء القاضي المذكور، يتعاهدن أمرها في كل وقت و يراعونه، الي أن دهمهم أمر «الصفار» [29] .



[ صفحه 66]



و بغتهم موت عبيدالله بن يحيي بن خاقان فجأة، و خروج صاحب الزنج بالبصرة، فشغلوا بذلك عن الجارية، فخرجت عن أيديهم و الحمد لله رب العالمين» [30] .

و كذلك قال ابراهيم بن محمد التبريزي:

«دخلت دار أبي محمد، الحسن بن علي عليه السلام بسر من رأي يوم توفي و أخرجت جنازته، و وضعت و نحن تسعة و ثلاثون رجلا قعود ننتظر - و هؤلاء من الشيعة الأبدال الثقات - حتي خرج علينا غلام عشاري القد - كأن عمره عشر سنين - عليه رداء قد تقنع به. فلما خرج قمنا هيبة له من غير أن نعرفه. فتقدم و قام من الناس و اصطفوا خلفه فصلي عليه. و مشي فدخل بيتا غير الذي خرج منه» [31] .

فتبارك الله أحسن الخالقين، الذي ألبس عبده المختار لأمره رداء عليه مسحة من جلاله و عظمته و هيبته، فصار يهاب و يعظم من غير أن يعرف، بل بدافع نفسي ينبعث من العقل الباطني الذي يعمل بمعزل عن ارادة صاحبه!.

وأخيرا نضع بين يدي القاري ء العزيز روايتين فيهما أسمي معاني المفارقات بين الحق و الباطل، و أوضح البراهين علي أن الله تعالي يتولي أمر أهل بيت الوحي و التنزيل الذين ميزهم عن سائر خلقه بأن جعلهم أمناءه علي كلمة السماء لأهل الأرض. و أعطاهم الجاه و العظمة اللتين لم يستطع أعداؤه و أعداؤهم محوهما في الحياة، و لا طمس آثارهما عند الممات.



[ صفحه 67]



الرواية الأولي: هي ما حكاه أبوهاشم الجعفري الذي قال:

«قال أبومحمد «الحسن بن علي عليه السلام: قبري بسر من رأي أمان لأهل الخافقين» [32] .

و في قوله صلوات الله عليه أمران لن نتجاوز ذكرهما:

الأول: أنه كيف أطلق هذا الكلام المؤكد أن قبره سيكون في سر من رأي، و هو ما يزال في ريعان شبابه و أيام أمله في الحياة (و ما تدري نفس ماذا تكسب غدا و ما تدري نفس بأي أرض تموت) [33] .

و الثاني: أنه كيف ضمن لمقامه الشريف هذه الوجاهة عند الله ليؤمه الخائفون المستجيرون فيجدوا عنده الراحة النفسية و الأمن و الاطمئنان الي ما يرضي الخالق عزوجل؟.

و بالفعل فان مقامه ومقام أبيه عليه السلام هما لكذلك!. فهو أمان لأهل الشرق و الغرب، و محجة لمئات ألوف الزوار في كل عام، ومطاف لهم، يقصدونه للتشرف به و ليطلبوا البركة و الزلفي لدي رب الأرباب بتقبيل تلك الأعتاب المقدسة (في بيوت أذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو و الآصال، رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله) [34] .

فالله سبحانه أولي بآل الله!.

و لا سلطان لغيره تعالي عليهم. لأنه تبارك و تعالي قال: (انا لننصر



[ صفحه 68]



رسلنا والذين ءامنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد) [35] .

وأئمتنا عليهم السلام علي رأس الذين آمنوا به. فتأكد نصرهم من عنده عزوجل: في الحياة الدنيا، و في الآخرة، بموجب قوله الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه..

و الرواية الثانية: هي ماحكاه علي بن عيسي الاربلي رحمه الله الذي قال:

«حكي لي بعض الأصحاب أن «المستنصر» - الخليفة العباسي - رحمه الله تعالي مشي مرة الي سر من رأي وزار العسكريين عليه السلام هما [36] ، و خرج فزار التربة التي دفن فيها الخلفاء من آبائه و أهل بيته و هم في قبة خربة يصيبها المطر و درق الطيور - سلحها -، و أنا رأيتها في هذه الحال!.

فقيل له: أنتم خلفاء الأرض و ملوك الدنيا، و لكم الأمر في العالم، و هذه قبور آبائكم بهذه الحال، لا يزورها زائر و لا يخطر بها خاطر، و ليس فيها أحد يميط عنها الأدي - أي يزيل الوسخ -!. و قبور هؤلاء العلويين كما ترونها بالستور، و القناديل، و الزوالي - السجاجيد - و الفراشين - الخدم - و الشمع، و البخور، و غير ذلك!!!

فقال - «المستنصر» -: هذا أمر سماوي، لايحصل باجتهادنا!. ولو حملنا الناس علي ذلك ما قبلوا و لا فعلوا» [37] .

لا و الله لا يقبلون، و لا يفعلون، كما قلت يا «مستنصر»!. ذاك أن



[ صفحه 69]



خلفاء أسرتك استنصروا بغير الله علي عباد الله و ظلموهم.. و الظلم مرتعه وخيم!.

و ان ديار الظالمين خراب.. و قبورهم يباب، ومطارح للأقذار، و مسارح للذباب!.

فاني بني أمية و بني العباس ملكوا الأرض شرقها و غربها قرابة خمسمائة سنة، و كانت سلطتهم ممتدة علي العالمين، و الخطب تستفتح علي المنابر بأسمائهم و بالدعاء لهم، ثم انتهي أمرهم و لم يشد أحد من الخلق الرحال لزيارة قبر من قبورهم - التي أصبح أكثرها مجهولا - و لا نشط لها واحد بقصد بركة أو قربي لله عزوجل، و لا خطر ذلك في خاطر قريب و لا بعيد، و لا محب و لا عدو منذ أيامهم الي أيامنا هذه!.

لقد ظهر الفرق..

و (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين) [38] .



[ صفحه 70]




پاورقي

[1] غلط بعض القائلين بأنه توفي في زمن المعتز، اذ كان يومها في أول عهد امامته.

[2] أنظر اعلام الوري ص 349 و بحارالأنوار ج 50 ص 237 و ص 238 و الفصول المهمة من ص 284 الي ص 290 ومناقب آل أبي طالب ج 4 ص 422 و كشف الغمة ج 3 ص 220 وموجز تواريخ أهل البيت ص 212 و الأنوار البهية ص 267 - 266 و وفاة العسكري ص 33.

[3] راجع مصادره في كتابنا «يوم الخلاص».

[4] بصائرالدرجات ج 10 ص 484.

[5] بحارالأنوار ج 50 ص 314 - 313 و ص 331 - 330 و بصائر الدرجات ج 10 ص 482 و اثبات الوصية ص 215 و هو في الأنوار البهية ص 272 ما عدا آخره.

[6] أي مع المهدي عجل الله تعالي فرجه.

[7] بحارالأنوار ج 50 ص 314 عن مهج الدعوات ص 345 و عن غيبة الطوسي ص 144 و ص 149 و الأنوار البهية من 272 و مدينة المعاجز ص 571 و اثبات الهداة ج 6 ص 313.

[8] أي مع المهدي عجل الله تعالي فرجه.

[9] اثبات الوصية ص 213 و هو كذلك في اثبات الهداة ج 6 ص 298 - 297 و بعض المصادر السابقة لهذا الرقم، و في الأنوار البهية ص 273.

[10] تحف العقول ص 263 - 262.

[11] قيل انه عليه السلام عاش و عشرين سنة، و توفي في شهر ربيع الآخر. فانظر الكافي ج 8 ص 503 و اعلام الوري ص 349 و ص 360 و بحارالأنوار ج 50 من ص 234 الي ص 238 و الارشاد ص 315 ومناقب آل أبي طالب ج 4 ص 422 و الفصول المهمة من ص 214 الي ص 290 و كشف الغمة من ص 194 الي ص 227 و هو أيضا في أهل البيت ص 212 و ص 213 و اثبات الوصية ص 218 و وفاة العسكري ص 4 و الأنوار البهية ص 266 و ص 273.

[12] الكامل لابن الأثير ج 7 ص 90.

[13] المصدر نفسه.

[14] مروج الذهب ج 4 ص 112 و بحارالأنوار ج 50 ص 336.

[15] بحارالأنوار ج 50 ص 332 - 330 نقلا عن كمال الدين ج 2 ص 150 - 149 و هو في وفاة العسكري ص 37 و الأنوار البهية ص 271 رواية عن أبي سهل، اسماعيل بن علي النوبختي، و هو كذلك في اثبات الهداة ج 6 ص 311.

[16] و روي هذا الحديث عن سعد بن عبدالله الذي قال: حدثنا من حضر موت الحسن بن علي العسكري، الخ....

[17] هو ابن يحيي بن خاقان، الوزير المقدم عند العباسيين، و قد قتل هو و المتوكل معا لما أفرطا في الظلم و الغشم.

[18] الموفق هو أحمد بن المتوكل، و كان صاحب جيش المعتمد و أخاه.

[19] في المحجة البيضاء ج 4 ص 322 الحديث الي هنا فقط.

[20] نحرير: كان خادم المعتمد الخاص. و هو من أشقي خدمه و أخبثهم، ومن أشدهم كرها للامام عليه السلام خاصة، و لشيعته عامة.

[21] هذه الصلاة حصلت بعد أن صلي عليه ابنه الحجة القائم بالحق في البيت كما ستري في الاكمال باسناده عن أبي الأديان ج 2 ص 475.

[22] أنظر هذا الخبر في بحارالأنوار ج 50 من ص 225 الي ص 229 نقلا عن كمال الدين ج 1 من ص 120 الي ص 125 و هو في الكافي ج 1 من ص 503 الي ص 506 و اعلام الوري من ص 357 الي ص 359 و الأنوار البهية من ص 267 الي ص 270 و كشف الغمة ج 3 من ص 197 الي ص 199 و الارشاد من ص 315 الي ص 320 و حلية الأبرار ج 2 من ص 486 الي ص 490 و الفصول المهمة من ص 288 الي ص 289 و وفاة العسكري من ص 33 الي ص 35 و مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 423 - 422 و في تاريخ اليعقوبي ج 3 ص 503 ذكر وفاته و الصلاة عليه و دفنه و تختلف بعض ألفاظه في بعض المصادر.

[23] الأنوارالبهية ص 272.

[24] المصدر السابق ص 273.

[25] أنظر ذلك مفصلا في الارشاد ص 322 و بحارالأنوار ج 50 ص 334 و كشف الغمة ج 3 ص 223 و اعلام الوري ص 360 و مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 422 و الأنوار البهية ص 273 باختلاف يسير في التطويل و التقصير، و اللفظ و التعبير.

[26] سورة يس: 54 - 53.

[27] الهميان: كيس تجعل فيه الدراهم، و يشد علي وسط الجسم، و هو ما يسميه العامة: الكمر.

[28] السمان: مر ذكره و صفته و هو من سفراء الامام عليه السلام، و عجل الله تعالي فرجه و هو عثمان بن سعيد العمري.

[29] الصفار: هو يعقوب بن ليث الصفار الذي خرج علي العباسية و سلطانها بثورة مذكورة في كتب التاريخ بتفصيل.

[30] بحارالأنوار ج 50 ص 333 - 332 نقلا عن كمال الدين ج 1 ص 152 - 150 و في بحارالأنوار ج 52 ص 49 بعضه، و كذلك في وفاة العسكري من ص 38 الي ص 40 و ص 44 و ينابيع المودة ج 3 ص 145 و مدينة المعاجز ص 574 - 573.

[31] بحارالأنوار ج 52 ص 5 و الارشاد ص 330.

[32] الأنوار البهية ص 274 و هو في مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 426 برواية الحسين بن روح قدس الله تعالي روحه، رواية عن أبي الحسن عليه السلام، والد امامنا الذي نحن بصدد عرض سيرته الكريمة. و في هذا دليل علي صحة صدور هذا القول عن الامامين عليه السلام هما لأن قبريهما في سر من رأي و في مقام واحد.

[33] سورة لقمان: 34.

[34] سورة النور: 37 - 36.

[35] سورة المؤمن: 51.

[36] المستنصر هو ابن المتوكل الذي كان شديد الظلم للعلويين و للأئمة عليهم السلام بصورة خاصة - و أم المستنصر - شيعية، و قد تأثر بها أولا، ثم ازداد تعلقا بالتشيع لما رآه من الحق عند الأئمة، و لما لمسه من تعصب أبيه و ظلمه لهم.

[37] الأنوارالبهية ص 274 و هو في مصدره الأساسي في كشف الغمة ج 3 ص 309.

[38] سورة لقمان: 11.