بازگشت

و مع «المهتدي»


كانت البيعة «للمهتدي» يوم الأحد لليلة بقيت من رجب سنة خمس و خمسين و مائتين، و له يومئذ سبع و ثلاثون سنة. و لم يستكمل الأربعين لأنه قتل في سنة ست و خمسين و مائتين، أي بعد أن قضي في الخلافة أحد عشر شهرا، و كان قد استوزر عيسي بن فرخانشاه [1] و تمت بيعته بعد سنة و شهور من امامة سيدنا العسكري عليه السلام. و في سنتين و شهور من امامته قتل «المهتدي» و خلفه «المعتمد» [2] .

و قد قال عنه المسعودي: «ذهب من أمره الي القصد و الدين، فقرب العلماء، و رفع منازل الفقهاء و عمهم ببره. وكان يقول: يا بني هاشم دعوني حتي أسلك مسلك عمر بن عبدالعزيز، فأكون فيكم مثل عمر بن عبدالعزيز في بني أمية» [3] .

و قال عنه المسعودي أيضا: «ذكر محمد بن علي الشريعي، و كان ممن يلي «بالمهتدي» و كان حسن المجلس عارفا بأيام الناس و أخبارهم، قال:

كنت أبايت «المهتدي» كثيرا - أي يبيت معه ليلا - فقال لي: أتعرف خبر نوف الذي حكي عن علي بن أبي طالب عليه السلام حين كان يبايته؟.



[ صفحه 152]



قلت: نعم، يا أميرالمؤمنين. قال نوف: رأيت عليا عليه السلام قد أكثر الخروج و الدخول و النظر الي السماء، ثم قال لي: يا نوف، أنائم أنت؟.

قلت: بل أرمقك بعيني منذ الليلة!.

فقال لي: يا نوف، طوبي للزاهدين في الدنيا و الراغبين في الآخرة!. أولئك قوم اتخذوا أرض الله بساطا، و ترابها فراشا، و ماءها طيبا و الكتاب شعارا، و الدعاء دثارا!. ثم تركوا الدنيا تركا علي منهاج المسيح عيسي ابن مريم عليه السلام.

يا نوف، ان الله جل و علا أوحي الي عبده المسيح، أن قل لبني اسرائيل: لا تدخلوا بيوتي الا بقلوب خاضعة، و أبصار خاشعة، و أكف نقية؛ و أعلمهم أني لا أجيب لأحد منهم دعوة، و لا لأحد قبله مظلمة» [4] .

قال محمد بن علي الشريعي: فوالله لقد كتب «المهتدي» الخبر بخطه، و لقد كنت أسمعه في جوف الليل، و قد خلا بربه، و هو يبكي و يقول: يا نوف، طوبي للزاهدين في الدنيا و الراغبين في الآخرة.. الي أن كان من أمره مع الأتراك ما كان» [5] .

و انه لقول جميل - يا مسعودي - صدقت قائله الشريعي حين قاله و رضيت به دون تعليق.. فقد كان يخالفه فعل الخليفة، و يخالفه ما ذكره غيرك من سيرة ابن الأربعين الذي كان يتم عقله في الليل فيقول: طوبي للزاهدين في الدنيا و الراغبين في الآخرة!. ثم يفقد رشده في النهار و يتصرف تصرف الأشرار. فكلام الليل - عند هذا الخليفة - يمحوه النهار!. لأنه كان يستحسن في الليل التغني بهذه الجملة، و يستعذب صوته و صداه و هو يردده



[ صفحه 153]



وحده.. و يسمعه منه الشريعي فيفرح بايمان سيده!. و لكنه لو جرب أن يراقب فعله فرآه يتعامل مع الله جل و علا، كما يتعامل معه المبصرون من الغجر حين يصورون له ملكا لا يبلي و مالا لا يفني، ثم يتبخر ذلك كله بعد خروجهم من مجلسه!.

و أنت يا مسعودي ذكرت أن أباهاشم الجعفري - و هو من رؤوس الهاشميين - قال:

«كنت محبوسا مع أبي محمد - الحسن العسكري عليه السلام - في حبس المهتدي، فقال لي - الامام -:

يا أباهاشم، ان هذا الطاغي أراد أن يبعث بأمر الله عزوجل في هذه الليلة.. أي أن يقتل الامام عليه السلام - و قد بتر الله عمره و جعله للمتولي بعده.

فلما أصبحنا شب الأتراك علي «المهتدي» و أعانهم العامة لما عرفوا من قوله بالاعتزال و القدر، فقتلوه و نصبوا مكانه «المعتمد» و بايعوا له.

و كان «المهتدي» قد صحح العزم علي قتل أبي محمد عليه السلام، فشغله الله بنفسه حتي قتل و مضي الي أليم عذاب الله» [6] .

فأين «المهتدي» عن تقريب العلماء، و رفع منازل الفقهاء و برهم، و هو يسهر ليله في تدبير المكيدة لقتل الامام، لا في التضرع و الخشوع و التهجد و الناس نيام؟!.

و أين «مهتديك»يا شريعي، عما شرعت به من النفاق حين صورته يتقمص في لياليه شخصية الزهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، و وجدناه



[ صفحه 154]



يفتعل انتحال شخصية علي بن أبي طالب عليه السلام ثم يبيت ليلته في تدبير قتل ابنه المحبوس في سجنه ظلما و عدوانا؟!

و هل الذي يهادن بني هاشم و يسلك فيهم مسلك عمر بن عبدالعزيز، يناصب العداء لعترة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و يلقي أمين الله في أرضه في غياهب سجنه، و يقضي الليل في تصميم عملية اغتياله؟!.

انها لألقاب فارغة من معانيها.. و «المهتدي» يعني الضال، أو الطاغي كما دعاه الامام عليه السلام.. و لا تبحث عن بديل لهذا اللقب الذي خلعه عليه ناطق صادق.

قال أحمد بن محمد - و روي أيضا عن محمد بن الحسن بن شمون البصري، عمن حدثه -:

«كتبت الي أبي محمد عليه السلام، حين أخذ «المهتدي» في قتل الموالي: الحمد لله الذي شغله عنا، فقد بلغني أنه يتهددك - و يتهدد شيعتك - و يقول: و الله لأجلينكم عن جديد الأرض!. - أي عن وجهها -.

فوقع أبومحمد عليه السلام بخطه: ذلك أقصر لعمره. عد من يومك هذا خمسة أيام، و يقتل في اليوم السادس بعد هوان و استخفاف يمر به، و ذل يلحقه!.

فكان كما قال عليه السلام» [7] .



[ صفحه 155]



فيا طويل العمر، قد قطع الله عمر هذا الطاغي المقسم به سبحانه أن يجلي الشيعة و امامهم عن جديد الأرض.. و أسكنه بقدرته بطن الأرض كومة أشلاء قطعتها سيوف جنده و حماة ملكه!.

فكيف رأيت صنع الله في مقمص شخصية علي بن أبي طالب، حين كان يتغني بطوبي للزاهدين في الدنيا و الراغبين في الآخرة؟!.

القوم - يا شريعي - أبناء القوم.. و ليس فيهم صالح لا في الأمس و لا اليوم. و قولك في زهد «المهتدي» مردود عليك من سيرته..

و ان المسعودي الذي حكي عن تقريبه للعلماء و الفقهاء و برهم، حكي بعدها أنه شرع في قتل مواليه من الترك، فخرجوا عليه و قتلوا صالح بن وصيف، و كان أعظم أمرائه و محل اعتماده في مهماته، و علقوا رأسه في باب «المهتدي» لهوانه و استخفافه!. فتغافل، و لكنهم قتلوه بعد ذلك أقبح قتل» [8] .

فهل كان هذا الخليفة «مهتديا» حقا فجرب مع بني هاشم و غيرهم سلوك طريقة العدل، أم هو ضال طاغ كذب علي الناس حين ألقي خطاب العرش لتستوسق له الأمور، ثم لما تحكم أعمل سيفه في الرقاب، ففتح عينيه علي سيف مصلت أذاقه الموت الزؤام و يده قابضة علي ساق عرشه، و اليد الأخري تشد علي صولجان الظلم الذي لما هزه في وجه خيرة المؤمنين، أكبه الله علي منخريه و ألحقه بآبائه الأولين؟!.

و انه لختار قال، و قال.. ثم خالف فعله قوله فبطش بالموالي و ولغ في دمائهم، فانتفضوا ثأرا لأنفسهم، و انتقضوا علي ظالمهم فقتلوا رئيس أمرائه و علقوا رأسه علي بابه اذلالا له، فأغضي عن ذلك و أغمض - كالثعلب - عينا



[ صفحه 156]



و فتح أخري ليسلم بريشه.. و لكنه فتح العين الأخري علي بريق سيف النقمة يقد جمجمته و هامته قدا!.

و نتابع لطفه بالعلماء، و بره بالفقهاء، و أهل الدين، فنذكر أن الامام عليه السلام كان لا يفارق حبسه الا ليعيدوه اليه انتقاما لعباسيته الحاقدة من أبناء علي و فاطمة عليهم السلام جميعا، اذ فضلهم الله تعالي عليهم و علي سائر من برأ و ذرأ و جعلهم السادة و القادة الذين تأخذهم السماء بكلتا يديها و مل ء عنايتها، لأنهم حفظة شرعها علي الأرض..

فعن محمد بن اسماعيل بن ابراهيم بن موسي بن جعفر - أيضا - أنه قال:

«دخل العباسيون علي صالح بن وصيف - الذي كانت الرسائل و الكتب تصدر عن القصر باسمه - و دخل معهم صالح بن علي و غيره من المنحرفين عن هذه الناحية - أي عن الامامة - فقالوا لابن وصيف:

ضيق عليه - أي علي الامام - و لاتوسع!. اذ كان يومئذ ضيفا عليه في سجنه -.

فقال لهم صالح ما أصنع به، وقد وكلت به رجلين شر من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة و الصلاة الي أمر عظيم!.

ثم أمر باحضار الموكلين فقال لهما: ويحكما، ما شأنكما في أمر هذا الرجل؟!. يقصد الامام السجين عليه السلام -.

فقالا له: ما نقول في رجل يصوم النهار، و يقوم الليل كله - يصلي - لا يتكلم و لا يتشاغل بغير العبادة؟!. فاذا نظرنا اليه ارتعدت فرائصنا و داخلنا ما لا نملكه من أنفسنا!.



[ صفحه 157]



فلما سمع ذلك العباسيون، انصرفوا خائبين» [9] .

و لا جرم أن ينقلبوا خائبين.. و ينصرفوا خاسئين غاضبين.. غضب الخيل علي اللجم!.

و كان الأحري بهم أن يخرجوا تائبين من ظلم بضعة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و نادمين عن سوء تصرفهم بحق العبد الصالح الذي اختاره سبحانه لأمره علي علم منه!. و كذلك كان الأجدر بأمر الأمراء: صالح بن وصيف أن يفي ء الي وعيه و يثوب الي رشده، و يتدخل لدي سيده من أجل اطلاق سراح ذلك السجين العظيم المظلوم الذي رمي به في غياهب سجنه و انصرف للهوه و لعبه!.

و علي كل حال اسألوا معي صالح بن وصيف هذا - قبل أن ينزلوا رأسه المعلق علي باب قصر سيده «المهتدي» عن سبب حبس سبط الرسول و ابن بنت البتول صلي الله عليه و عليها، و ما هو جرمه المشهود بحق عرش «المهتدي» بارشاد الشيطان الي ما يغضب الديان؟!.

بل لا بد أن نسأل هذا الرهط العباسي المنافق المارق من دين الله، بأي ذنب حبس الامام، و بأي فرية منه عليكم جئتم لاهثين تلتمسون التضييق عليه من قبل عميلكم الفاسق الذي سبق مولاه الي سقر، حيث وجد فيها مأوي سيده و مأواه؟!.

بكي معاوية بن أبي سفيان مرة عندما سمع كلام علي عليه السلام لنوف،



[ صفحه 158]



و تباكي «المهتدي» الي وثنية الأمويين و ايذاء أبناء النبيين مرة ثانية لذلك الكلام،

ثم بكي، فعلا، عندما ذاق حر حد الحسام.


پاورقي

[1] مروج الذهب ج 4 ص 36 و أكثر مصادر التاريخ.

[2] اثبات الوصية ص 209.

[3] مروج الذهب ج 4 ص 103.

[4] نهج البلاغة رقم 104 من الحكم و المواعظ.

[5] بحارالأنوار ج 50 ص 316 - 315 و مروج الذهب ج 4 ص 107 - 106.

[6] اثبات الوصية ص 215 و بحارالأنوار ج 50 ص 303 نقلا عن الغيبة للطوسي ص 133 - 132 و هو في ص 313 نقلا عن مهج الدعوات ص 343 و هو في مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 430 و مدينة المعاجز ص 579.

[7] الارشاد ص 324 و اثبات الوصية ص 213 - 212 و الكافي ج 1 ص 510 و كشف الغمة ج 3 ص 204 و اعلام الوري ص 356 و بحارالأنوار ج 50 ص 308 و مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 436 بفارق يسير، و هو في وفاة العسكري ص 30 و المحجة البيضاء ج 4 ص 327 و مدينة المعاجز ص 264 و ص 580 - 579 و اثبات الهداة ج 6 ص 290.

[8] مروج الذهب ج 4 ص 84.

[9] الارشاد ص 324 و اعلام الوري ص 360 و كشف الغمة ج 3 ص 204 و مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 429 و الكافي ج 1 ص 512 باختلاف يسير، و هو في بحارالأنوار ج 50 ص 309 - 308 و حلية الأبرار ج 2 ص 485 ووفاة العسكري ص 31 - 30 و الأنوار البهية ص 261 - 260 و المحجة البيضاء ج 4 ص 328 - 327 و اثبات الهداة ج 6 ص 284 و مدينة المعاجز ص 15.