بازگشت

الامام مع حكام عصره


لقد ذكرناد انه عاش سني امامته مع ثلاثة من خلفاء بني العباس: المعتز بالله والمهتدي و المعتد، و كانت المدة التي قضاها مع المعتز تتراوح بين السنة والاحد عشر شهرا و بنهايتها ثار عليه الاتراك و قتلوه، و تولاها من بعده المهتدي سنة 255 تقريبا فأراد ان يتنسك ويسلك في الرعية طريق الخلفاء الأوائل و عمر بن عبدالعزيز و يضع حدا للفوضي و البذخ و بني قبة للمظالم جلس فيها للعام و الخاص كما جاء في مروج المسعودي فشق ذلك علي الناس عامة و علي الاتراك خاصة الذين كانوا يتصرفون كما تهوي انفسهم، و جري بينه و بين قادته الاتراك حوار جاء فيه: تريد ان تحمل الناس علي سيرة عظيمة لم يعرفوها، فقال: اريد ان احملهم علي سيرة الرسول و أهل بيته و الخلفاء الراشدين، فقالوا له: ان الرسول (ص) كان مع قوم زهدوا في الدنيا و رغبوا في الآخرة، و أنت رجالك ما بين تركي و خزرجي و فرغاني و مغربي و غير ذلك من انواع الاعاجم لا يعلمون ما يجب عليهم من امر آخرتهم، و انما غرضهم ما استعجلوه في هذه الدنيا، و بقي مصرا علي مناهضة الاتراك و الموالي بدون جدوي واصطدم في قتال معهم ادي الي انهزام جيشه و دخوله الي سامراء وحده يصيح في شوارعها مستغيثا بأهلها، فلم يجبه احد الي ذلك.



[ صفحه 486]



و فيما كان المهتدي في صراع مرير مع الاتراك و الموالي تنبأ الامام له بالمصير الذي انتهي اليه، فقد جاء في تاريخ الغيبة الصغري تأليف محمد الصدر عن اعلام الوري للطبرسي انه خطر في ذهن بعض اصحاب الامام ان انشغال المهتدي بذلك يصرفه عن ملاحقة الامام و تهديده له، فكتب اليه: الحمدلله الذي شغله عنك ففد بلغني انه كان يتهددك، فوقع الامام بخطه: ذاك اقصر لعمره عد من يومك هذا خمسة أيام و يقتل في اليوم السادس بعد هوان و استخفاف به.

و يظهر من مناقب ابن شهر آشوب ان المهتدي مع دعوته الي تحقيق العدالة في الرعية و السير بهم علي النهج الذي اختاره لنفسه عمربن عبدالعزيز كان يسي ء الي الامام و قد وضعه في السجن و أوصي بالتضييق عليه، و قد صرح الامام في سجنه لاحد اصحابه المسجونين معه قائلا: في هذه الليلة يبتر الله عمره، قال الراوي: فلما اصبحنا اشتد الاتراك عليه و قتلوه و تولي المعتمد مكانه.

و جاء في رواية الكليني عن علي بن محمد بسنده الي علي بن عبدالغفار انه قال: دخل العباسيون علي صالح بن وصيف، و معهم صالح بن علي و غيره من المنحرفين عن هذه الناحية عندما حبس ابومحمد الحسن بن علي العسكري و طلبوا منه التضييق عليه، فقال لهم صالح: ما اصنع به و قد وكلت به رجلين أشر من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة الي امر عظيم، ثم امر باحضار الموكلين به، فقال لهما: ويحكما ما شأنكما في امر هذا الرجل، فقالا له: ما تقول في رجل يصوم نهاره و يقول ليله كله لا يتكلم و لا يتشاغل بغير العبادة، و اذا نظر الينا ارتعدت فرائصنا و داخلنا ما لا نملكه من انفسنا، فلما سمع ذلك العباسيون انصرفوا خاسئين.

و ليس في هذه الرواية ما يشير الي ان ذلك كان في عهد المهتدي او بعد عهده في ظل غيره، و ان كانت الرواية السابقة تكاد تكون صريحة في انه كان



[ صفحه 487]



محبوسا في عهده.

و جاء في القنية للاربلي عن محمد بن اسماعيل العلوي انه قال: لقد حبس ابومحمد الحسن بن علي العسكري (ع) عند علي بن اوتامش و كان شديد العداوة لآل محمد (ص) غليظا علي آل ابي طالب، فقيل له: شدد عليه وافعل به وافعل ما يسي ء اليه، فما اقام الا اياما حتي وضع خديه له و كان لا يرفع بصره اليه اجلالا واعظاما و خرج من عنده و هو احسن الناس بصيرة و أجودهم قولا فيه. و يبدو من بعض المرويات انه حبس اكثر من مرة خلال السنوات الست التي قضاها بعد ابيه من قبل الخلفاء الثلاثة الذين عاصرهم بعد ابيه (ع).

و كان المعتز العباسي يحقد علي الامام و يحاول الفتك به كما تشير الي ذلك رواية المناقب لابن شهر اشوب، و قد جاء فيها انه امر سعيد الحاجب بقتل ابي محمد الحسن العسكري بعيدا عن اعين الناس و قال له: اخرج ابامحمد الي الكوفة ثم اضرب عنقه من حيث لا يراك احد، و مضي الراوي يقول: فجاء توقيع الامام الينا: ان الذي سمعتموه تكفونه ان شاء الله، فخلع المعتز بعد ثلاثة ايام و قتل.

و يبدو ان انباء هذه المؤامرة علي حياة الامام (ع) قد تسربت الي اوساط الشيعة فأراد الامام ان يطمئنهم بما تنبأ به للمعتز من المصير الذي ينتظره قبل تنفيذ ما كان يخططه له، و ليس بغريب علي الامام بل و حتي علي غيره ممن عاصروا الحكم العباسي في تلك الفترة من تاريخهم اذا اصابوا فيما كانوا يتنبأون به من المصير السي ء لاولئك الحكام الذين كانوا لا يملكون من امرهم شيئا و قد وصفهم أحد الشعراء بأبيات جاء فيها:



و طغوا فاصبح ملكنا متقسما

و امامنا فيه شبيه الضيف



و في خلافة المهتدي خرج صاحب الزنج بمن معه من العبيد و الفقراء و المستضعفين و استطاعه ان يسيطر علي البصرة و وجهائها مدعيا بأنه من سلالة



[ صفحه 488]



النبي (ص) و ينتهي في نسبه الي الامام علي بن ابي طالب (ع) و هو ما يدعي بعض المؤرخين علي بن محمد بن احمد بن عيسي بن زيد بن علي بن الحسين (ع).

و جاء في المجلد الثاني من مروج الذهب للمسعودي انه من بعض قري الري و ان اكثر انصاره كانوا من الموالي و الزنوج فضايق العباسيين و كاد ان يستولي علي عاصمتهم بغداد بعد معارك ضارية بينه و بينهم و أثار انتسابه الي العلويين موجة من الاستغراب والتساؤل كما يدعي المؤرخون بعد الاعمال المنكرة و الفظائع التي مارسها انصاره كما كان لانتسابه الي العلويين اثر واسع في انتشار دعوته و كثرة مؤيديه مما دعا الامام ابامحمد العسكري بناء لطلب الحكام و حاشيتهم منه بصفته اكبر مسؤول علوي يوم ذاك الي نفي انتسابه اليهم و تكذيبه فيما ادعاه فقال: (ان صاحب الزنج ليس من أهل البيت) و كان مع ذلك ينكر انتسابه الي العلويين عندما يجري الحديث عن ثورته و ما رافقها من قتل الشيوخ و الاطفال و سبي النساء و احراق المدن و المنازل و غير ذلك من الفظائع التي كان يتحدث بها الناس في تلك الفترة من تاريخ الدولة الاسلامية - كما يدعي المؤرخون، و كان الي جانب يري رأي أزارقة الخوارج كما رجح ذلك المسعودي في مروجه.

و من تتبع احداث تلك الفترة من تاريخ الدولة الاسلامية التي كان الاتراك و الغلمان فيها يسيطرون علي جميع مرافق الدولة و مقدرات البلاد و خيراتها، و ما رافق ذلك من ظلم و بلاء شملا جميع انحاء الدولة و فئات الأمة، و الخليفة لا يملك من الأمر شيئا، لا يستعبد ان تكون حركة صاحب الزنج و أتباعه كغيرها من الانتفاضات التي كانت تحدث بين الحين و الآخر بقيادة العلويين و غيرهم للتخلص مما كان فئات الشعوب الاسلامية و ان ما نسب اليهم من الفظائع كان من صنع الحكام و أجهزتهم.

اما ما يرويه الرواة من ان الامام قال: صاحب الزنج ليس منا فعلي



[ صفحه 489]



تقدير صحة ذلك منه فكلمة هذه ليست صريحة في كونه دعيا كاذبا في انتسابه اليهم الجواز ان يكون قد اراد انه ليس منا في اعماله و تصرفاته، كما يجوز ان يكون مكرها علي كلمته هذه من الحاكمين، و تشير بعض المرويات علي انه لم يكن كاذبا كما جاء في الاكمال للصدوق.

و مهما كان الحال فلقد كانت سيرة المعتمد مع الامام العسكري لا تختلف عن سيرة من سبقه من حكام العباسين، فقد وضعه تحت الرقابة الشديدة حتي لم يعد بامكان احد ان يتصل به الا في ظل ظروف خاصة كان الامام قد اتفق عليها مع خاصته و كل ما كان يأتيه من الخارج و يصدر عنه كان بطريق المراسلة.

و جاء في بعض المرويات ان المعتمد في مطلع خلافته قصد الامام العسكري الي داره و طلب منه ان يدعوا له بطول العمر و البقاء في الخلافة عشرين عاما و لم يتردد الامام (ع) في اجابة طلبه لمصلحة تفرض عليه ذلك فأجابه يقول: مد الله في عمرك.

و يبدو من هذه الرواية ان المعتمد كان متشائما و يعيش في جو من القلق و الخوف بعد ما جري لاسلافه الذين كانت حياتهم و خلافتهم تحت رحمة الاتراك و الموالي، و قد سبقه ثلاثة من الخلفاء المنتصر و المعتز و المهتدي حكم اولهم نحو من ستة اشهر و حكم الثاني و الثالث كل واحد منهما مدة تتراوح بين الستة و الاحد عشر شهرا، والمدة التي حددها للامام لم يكن يحكم بها في تلك الاجواء المعقدة التي لم تترك له املا في الحياة يوما او بعض يوم فضلا عن عام او اعوام الا بدعوة مستجابة و لم يكن يطمئن لغير دعوته و لا لاستجابتها اذا صدرت من غيره لأنه بالرغم من سوء صنيعه معه و حقده الموروث علي بيته كان كغيره يؤمن بصحة موقف الامام و عدالته و صلته الاكيدة بالله الذي وعد من استجاب له ان يستجيب لدعائه.

(و اذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداعي اذا دعاني



[ صفحه 490]



فاستجيبوا لي). كما كان اسلافه يؤمنون ايمانا راسخا بما للأئمة من أهل البيت من مكانة عندالله و بأحقيتهم في رعاية الأمة و ادارة شؤونها، و لم يقفوا منهم ذلك الموقف الجائر الا لأنهم كانوا يحسبون ان وجودهم يشكل خطرا علي عروشهم.

و المعتمد العباسي مع انه حينما تولي الخلافة كان خائفا و متشائما و لم يجد من يلوذ به ليكشف عنه شر الاتراك و الغلمان غير الله بواسطته لأنه يؤمن بأن الامام من اقرب الوسائل الي الله فمضي اليه متوسلا بدعائه ان يمد الله في عمره و بقي في الخلافة نحوا من ثلاثة و عشرين عاما، مع انه كان كذلك وافتتح عهده بدعوة مستجابة من الامام وقف منه نفس الموقف الذي وقفه اسلافه مع آبائه و أجداده و تشير بعض الروايات الي انه قد سجنه اكثر من مرة و كان يضيق عليه في سجونه كما يشير بعضها الي ان الذين كانوا يعظمونه و يجلونه من أعوان المعتمد كانوا يتحاشون غضبه و غضب اجهزته و ولي عهده الموفق بن جعفر المتوكل، فقد روي الرواة عن احمد بن عبيدالله بن يحيي بن خاقان، و كان المعتمد قد استوزره في مطلع خلافته سنة 256، فقد جاء عنه انه قال: كنت جالسا علي رأس ابي في يوم مجلسه للناس اذا دخل حجابه و قالوا: ان ابامحمد بن الرضا بالباب، فقال بصوت عال: ائذنوا له، فتعجبت منه و من جسارتهم ان يكونوا رجلا بحضرة ابي، و لم يكن يكني عنده الا خليفة او ولي عهد او من أمر السلطان ان يكني، فدخل رجل اسمر أعين حسن القامة جميل الوجه جيد البدن حديث السن له هيبة و جلال، فلما نظر اليه ابي قام فمشي اليه مستقبلا و لا اعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم و القواد و أولياء العهد، و لما دنا منه عانقه و قبل وجهه و صدره و منكبيه و أخذ بيده و أجلسه علي مصلاه الذي كان عليه و جلس الي جنبه مقبلا عليه بوجهه و جعل يكلمه و يفديه بنفسه و أبويه، و فيما انا متعجب مما اري منه اذ دخل الحاجب و قال: لقد جاء الموفق و هو شقيق المعتمد، و كان الموفق اذا دخل علي ابي تقدمه حجابه و خاصة قواده فقاموا بين مجلس ابي و بين الباب سماطين



[ صفحه 491]



الي ان يدخل و يخرج، فلما نظر ابي الي غلمان الموفق قال لأبي محمد: اذا شئت جعلني الله فداك، و قال لحجابه: خذوا به خلف السماطين حتي لا يراه هذا مشيرا الي طلحة المعروف بالموفق خوفا منه علي نفسه و عليه، ثم قام اليه مودعا فعانقه و مضي. و أما أحمد بن عبيدالله فقد بقي قلقا متفكرا في امر ابيه و أمر الرجل الذي لقي تلك الحفاوة منه حتي استغل دخول الليل و انفراد ابيه مع نفسه لاداء الصلاة، فلما صلي و جلس سأله عن الرجل الذي اختصه من بين سائر الناس بالتبجيل و التعظيم و فداه بنفسه و أبويه، فقال له: ذاك يا بني امام الرافضة الحسن بن علي المعروف بابن الرضا، و مضي الراوي يقول: و سكت ابي ساعة و كأنه يفكر في امر قد اهمه، ثم قال: لو زالت الامامة عن خلفاء بني العباس يا بني ما استحقها احد من بني هاشم غيره لفضله و عفافه و عبادته و زهده و جميل اخلاقه، و لو رأيت اباه لرأيت رجلا جزلا نبيلا فاضلا، و للحديث تتمة سنأتي عليها عند الحديث عن وفاة الامام (ع).

و يبدو مما اضافة الرواة الي احمد بن عبيدالله ان هذا المشهد و ما سمعه من العامة و الخاصة من ثناء و تقدير و تقديس للامام قد احدث تحولا في موقفه منه و أصبح يقدره و يجله بعد ان كان لا يضمر الخير لاحد من العلويين و أنصارهم و شيعتهم.

و سواء صحت هذه المرويات ام لم تصح و ليس ما يمنع من صحتها، فمما لا شك فيه ان كثرة الشيعة في ذلك العصر و انتشارهم في كل بلد و حتي في عاصمة اولئك الحكام و اجتماعهم علي الامام ابي محمد (ع) و تدفق الأموال عليه من مختلف المناطق بواسطة وكلائه المنتشرين هنا و هناك، كل ذلك بالاضافة الي الوفود التي كانت تزدحم علي بابه بين الحين و الآخر، و الي انتفاضات العلويين ضد الحكم القائم يوم ذاك في اكثر من مكان كالحسن بن زيد العلوي الذي سيطر علي طبرستان وجهاتها و غيره، قد اقض مضاجع الحكام و جسد لهم الاخطار التي تكمن في بقاء الامام العسكري حرا طليقا هو و شيعته، لا سيما و انهم يعرفون رأيه في الحكم و الحاكمين، و يعلمون بأنه



[ صفحه 492]



حيث يندد بالظلم و الظالمين بلا هوادة كان يعنيهم قبل غيرهم.

و حينما كان يوصي بالعدل و الاحسان و الايثار، و يحذر من الجور و الطغيان يريد ان يلفت الانظار الي استهتارهم بالقيم و الاخلاق و حقوق العباد و اسرافهم في المعاصي و المنكرات، كل ذلك قد اقض مضاجعهم ففرضوا عليه الاقامة الجبرية الي جوارهم كما فرضوها علي ابيه من قبله و سلطوا عليه اجهزتهم و سجنوه خلال السنوات القليلة من امامته اكثر من مرة و شددوا الحصار علي شيعته المنتشرين في انحاء البلاد حتي قتلوا منهم في مدينة قم معقل الشيعة و العلماء و المحدثين مقتلة عظيمة كما جاء في المجلد الخامس من الكامل لابن الاثير و ظل الضغط يتوالي عليه و يشتد حتي تاريخ وفاته و هو في ريعان شبابه قبل ان يبلغ الثلاثين من عمره مسموما كما قيل و ليس ذلك علي الظالمين ببعيد.



[ صفحه 493]