بازگشت

التشيع في عهد الامام العسكري


لقد رافق التشيع بما له من المعني الصحيح ظهور الاسلام و مضي في طريقه ببطء تارة و بقوة اخري حتي دخل في عهد الامامين الباقر و الصادق ببركة الدماء الزكية التي اريقت في سبيل الله وجهودهما و آثارهما التي كانت و لا تزال من أفضل ما انتجه الفكر الاسلامي و أوفرها عطاء كل مدينة و كل قرية بالرغم من تلك الاحداث القاسية التي كانت تلاحقه في كل بلد بل و في كل بيت من الامويين و العباسيين علي السواء، بل كانت محنته من العباسيين أقسي و أمر كما يدل علي ذلك تاريخهم الطويل مع الشيعة و أئمتهم الاطهار.

و لم يحدث التاريخ عن دعوة لقيت ما لقيه التشيع من التحدي و المطاردة و الظلم بأقبح صوره و أشكاله و استطاعت ان تصمد في وجه اعدائها كما صمد التشيع و قفز فوق الاحداث و الحكام لينتشر في ارجاء الدنيا الواسعة متحديا جميع الطغاة و الجبابرة. و كأن اولئك الذين كانوا يعملون بكل ما لديهم من قوي الشر و البغي لمحقه او تحجيمه و هو اقل ما كانوا يأملون كأنهم كانوا يدفعون به الي الامام بكل ما يملكون من حول و طول.

و ظل يتسع خلال القرنين الثاني و الثالث برعاية الأئمة الاطهار و تعاليمهم و جهادهم المتواصل بالرغم من الحصار المفروض عليهم من السلطات الحاكمة



[ صفحه 494]



و أجهزتها التي كانت تلاحقهم في كل مكان الي اشرنا الي ذلك في الفصول السابقة من هذا الكتاب.

و في عهد الامامين الهادي و العسكري كان عدد الشيعة في بعض المناطق من ايران و الكوفة و بغداد و المدائن و مصر و اليمن و الحجاز و حتي في سامراء عاصمة العباسيين يقدر بعشرات الملايين و لم يكن لهم مرجع سوي الامام ابي محمد العسكري بعد ابيه فيما اشكل عليهم من امور دينهم و دنياهم كما كانت اخماس اموالهم تجبي اليه بواسطة وكلائه المنتشرين هنا و هناك.

و جاء في الغيبة للطوسي ان عثمان بن سعيد العمري كان من وكلاء الامام ابي محمد العسكري (ع) و يلقب بالسمان لأنه كان يتجر بالسمن تغطية لأمره فاذا اراد الشيعة ان يحملوا لأبي محمد ما يجب عليهم من الاموال انفذوا الي ابي عمر و عثمان بن سعيد و دفعوه اليه فيجعله في جراب السمن و زقاقه و يحمله الي ابي محمد تقية و خوفا من الحكام و أجهزتهم.

و روي الشيخ الطوسي في غيبته ايضا بسنده الي الحسين بن احمد الخصيبي انه قال: حدثني محمد بن اسماعيل و علي بن عبدالله الحسنيان قالا: دخلنا علي ابي محمد الحسن (ع) بسر من رأي و بين يديه جماعة من اوليائه و شيعته فدخل عليه بدر خادمه و قال: يا مولاي بالباب قوم شعث غبر، فقال له: هؤلاء نفر من شيعتنا باليمن فامض وائتنا بعثمان بن سعيد العمري، قالا: فما لبثنا الا يسيرا حتي دخل عثمان فقال له ابومحمد (ع): امض يا عثمان فانك الوكيل والثقة المأمون علي مال الله واقبض من هؤلاء النفر اليمنيين ما حملوه من المال، و جاء في تتمة الحديث: ثم قلنا بأجمعنا يد سيدنا والله ان عثمان لمن خيار شيعتك و لقد زدتنا علما بموضعه من خدمتك و انه وكيلك و ثقتك علي مال الله تعالي، فقال: نعم واشهدوا علي ان عثمان بن سعيد وكيلي و ان ابنه محمدا وكيل ابني مهديكم.

و جاء في كشف الغمة للاربلي ان رجلا من العلويين خرج من سر من



[ صفحه 495]



رأي ايام ابي محمد (ع) الي الجبل يطلب الفضل فتلقاه رجل بحلوان فقال من أين اقبلت، قال: من سامراء، قال: هل تعرف درب كذا و موضع كذا؟ قال: نعم، قال: فهل عندك من اخبار الحسن بن علي شي ء، قال: لا، فقال: فما اقدمك الجبل؟ قال: طلب الفضل، فقال له: فلك عندي خمسون دينارا فاقبضها وانصرف معي الي سر من رأي حتي توصلني الي الحسن بن علي، فأعطاه خمسين دينارا و عاد العلوي معه واستأذنا غعلي ابي محمد فأذن لهما و هو في صحن الدار فلما نظر الي الجبلي قال له: انت فلان بن فلان اوصي اليك ابوك بوصية و جئت تؤديها و معك اربعة آلاف دينار، قال: نعم، و دفعها اليه، ثم نظر الامام الي العلوي و قال: لقد خرجت الي الجبل تطلب الفضل فأعطاك هذا الرجل خمسين دينارا و رجعت معه و نحن نعطيك خمسين دينارا.

و ورد عليه مع جماعة مائة و ستون صرة من الذهب و الفضة و مع جماعة آخرين مبلغ كبير من المال حملوه معهم من جرجان كما جاء في كشف الغمة، و حمل اليه محمد بن ابراهيم بن مهزيار اموالا كثيرة كانت للامام عند ابيه فلما حضرته الوفاة دفعها لولده محمد و حملها اليه فلما انتهي الي بغداد جاءه العمري و كان من اوثق اصحاب ابي محمد فدفعها اليه كما نص علي ذلك الكشي في رجاله.

و حمل اليه شخص آخر ثمانية عشر قيراطا من الذهب الي غير ذلك من الاموال الكثيرة التي كانت تجبي اليه من مختلف المناطق كنا تؤكد ذلك المرويات الشيعة و كتب الرجال بالرغم و من السرية التامة التي كانت تكتنف هذه الناحية من حياة الامام ابي محمد العسكري خوفا من الحكام و أجهزتهم التي كانت تراقبه في جميع الحالات مما يساعد علي تكوين فكرة واضحة عن انتشار التشيع في انحاء الدولة و عجزها عن مقاومته.

و خلال تلك الفترة التي فرضوا فيها الحصار علي الأئمة و وضعوهم قيد الاقامة الجبرية في سامراء كان الشيعة و علماؤهم يعتمدون في فقههم علي



[ صفحه 496]



المرويات و المدونات التي كانت بين ايدي المحدثين والعلماء الذين تخرجوا من مدرسة الامامين الباقر و الصادق و ما اتصل من اصحاب الامامين الكاظم و ولده الرضا (ع).

و كانت حلقات التدريس و المذاكرة تعقد في الكوفة و بغداد و الحجاز واشتهرت مدينة قم في تلك الفترة من تاريخها في ذلك، و قد ادرك الحسن بن علي الوشا و كان معاصرا للامام الرضا (ع) تسعمائة شيخ من بقايا تلامذة الامامين كانوا في مسجد الكوفة يحدثون عن جعفر بن محمد (ع) كما كان محمد بن عمير يملك مائة كتاب من مرويات تلامذة الامام الصادق، و كان محمد بن مسعود العياشي الذي عاصر الامامين الهادي و العسكري قد انفق ثروة ابيه بكاملها علي نشر آثار اهل البيت، و كانت داره كالمسجد تجمع العشرات ما بين ناسخ و مقابل و قاري ء و معلق، و كانت تلك الكتب علي ما يبدو تعرض علي الأئمة عندما يتاح لاصحابهم الاتصال بهم.

و قد سئل الامام ابومحمد العسكري عن كتب الفطحية و الواقفة و غيرهم من المنحرفين عن الأئمة المتأخرين فقال كما روي الرواة عنه: خذوا ما رووا و ذروا ما رأوا.

و قد جمعت مدينة قم مئات الرواة والعلماء في عصره ممن تفرغوا لدراسة الحديث و تصفيته من موضوعات الخطابية و الغلاة و غيرهما من المنحرفين عن الأئمة و المتهمين بالكذب عليهم، و كانوا يرجعون الي الامامين الهادي و العسكري فيما اشكل عليهم امره من الاحكام و لم يجدوا عليه نصا فيما لديهم من مؤلفات اصحاب الأئمة السابقين و مروياتهم، فيكتبون اليه لتعذر الاتصال به مباشرة و هو يكتب الجواب بيده و يرده اليهم.

و من امثلة ذلك ما رواه في الكافي عن محمد بن يحيي انه قال: كتب محمد بن الحسن الي ابي محمد (ع): هو تقبل شهادة الوصي للميت بدين له علي رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقع (ع): اذا شهد معه آخر عدل فعلي



[ صفحه 497]



المدعي يمين [1] ، و مضي الراوي يقول: و كتب أيجوز للوصي ان يشهد لوارث الميت صغيرا او كبيرا بحق له علي الميت او علي غيره و هو القابض للوارث الصغير و ليس الكبير بقابض؟ فوقع (ع): نعم ينبغي للوصي ان يشهد بالحق و لا يكتم الشهادة، و أضاف الي ذلك الراوي انه كتب اليه: او تقبل شهادة الوصي علي الميت مع شاهد آخر عدل؟ فوقع: نعم من بعد يمين [2] .

و من ذلك ما رواه محمد بن يحيي عن محمد بن الحسن انه كتب الي ابي محمد (ع) في رجل باع ضيعته من رجل آخر و هي قطاع ارضين و لم يعرف الحدود في وقت ما اشهدوه و قال: اذا ما اتوك بالحدود فاشهد بها هل يجوز له ذلك او لا يجوز له ان يشهد، فوقع في الجواب: نعم يجوز له ذلك والحمدلله.

و مضي الراوي يقول: و كتب له رجل كان له قطاع ارضين فحضره الخروج الي مكة و القرية علي مراحل من منزله و لم يؤت بحدود ارضه و عرف حدود القرية الاربعة، فقال للشهود اشهدوا اني قد بعت من فلان جميع القرية التي حد منها كذا و الثاني والثالث والرابع كذا، و انما له في هذه القرية قطاع ارضين فهل يصلح للمشتري ذلك و انما له بعض هذه القرية و قد اقر له بكاملها، فكتب في الجواب: لا يجوز بيع ما ليس يملك و قد وجب الشراء علي المالك علي ما يملك، و أضاف الي ذلك الراوي انه كتب له: هل يجوز للشاهد الذي اشهده بجميع هذه القرقة ان يشهد بحدود قطاع الأرض التي له فيها اذا تعرف حدود هذه القطاع بقوم من أهل هذه القرية اذا كانوا عدولا؟ فوقع (ع): نعم يشهدون علي شي ء مفهوم معروف. [3] .



[ صفحه 498]



و مضي الراوي يقول: و كتب اليه رجل، قال الرجل: اشهد ان جميع الدار التي في موضع كذا و كذا بحدودها كلها لفلان بن فلان و جميع ما له في الدار من المتاع، هل يصلح للمشتري ما في الدار من المتاع اي شي ء هو؟ فوقع (ع): يصلح له ما احاط الشراء بجميع ذلك ان شاء الله.

و من ذلك ايضا ما رواه في الكافي بسنده الي سهل بن زياد انه قال: كتبت الي ابي محمد (ع): رجل كان له ابنان فمات احدهما و له ولد ذكور و اناث فأوصي لهم جدهم بسهم ابيهم فهذا السهم الذكر والانثي فيه سواء ام للذكر مثل حظ الانثيين؟ فوقع (ع) بخطه: ينفذون وصية جدهم كما امر الله، و مضي الراوي يقول: و كتب له رجل له ولد ذكور و اناث فأقر لهم بضيعة انها لولده و لم يذكر انها بينهم علي سهام الله و فرائضه الذكر والانثي فيه سواء، فوقع: ينفذون فيها وصية ابيهم علي ما سمي فان لم يكن سمي شيئا ردوها الي كتاب الله عزوجل و سنة نبيه (ص) ان شاء الله.

و كتب اليه محمد بن الحسن: رجل مات و أوصي الي رجلين: أيجوز لاحدهما ان ينفرد بنصف التركة و الآخر بالنصف، فوقع (ع): لا ينبغي لهما ان يخالفا الميت و ان يعملا علي حسب ما امرهما.

الي غير ذلك من الامثلة الكثيرة التي يجدها المتتبع في ابواب الفقه و كلها من نوع المكاتبات كما و ان جلها ان لم يكن كلها بواسطة محمد بن الحسن.

و لعله علي ما يبدو من الشراح محمد بن الحسن الصفار، و قد ذكر المؤلفون في احوال الرجال عنه انه كان وجها من وجوه العلماء و حملة الحديث في قم ثقة عظيم القدر راجحا قليل السقط علي حد تعبيرهم، و أضافوا الي بذلك ان له المسائل الي ابي محمد الحسن بن علي العسكري.

و روي عن ابي محمد العسكري بعض المسائل سهل بن زياد ابوسعيد الآدمي كان يسأله عنها بالمراسلة و قد ذكرنا بعضها.



[ صفحه 499]



و يبدو من المؤلفين في احوال الرجال انه لم يكن في المستوي المطلوب و قد اتهم بالغلو و أخرجه احمد بن عيسي الاشعري من مدينة قم و نهي عن الاستماع لروايته و الرواية عنه، و سكن الري بعدما اخرجوه من عاصمة المحدثين قم، ودافع عنه بعضهم بما حاصله ان احمد بن محمد و من معه من القميين كانوا يتشددون في شروط الراوي و الرواية و يتهمون بعض الرواة بالغلوا لأقل شبهة او كلمة يستشم منها ذلك، و قد اخرج احمد بن محمد بن عيسي احمد بن خالد البرقي من قم كما اخرج غيره، لهذا السبب ايضا مع انه كان من المرضيين عند اكثر المحدثين و المؤلفين في احوال الرواة، و أخيرا استدعاه واعتذر و لما مات مشي في جنازته و التأثر باد عليه.

و لعل حرص القميين رضوان الله عليهم علي تنزيه الأئمة (ع) مما الصقه بهم الغلاة و المنحرفون و انتشار المرويات المكذوبة بين احاديثهم و في كتب اصحاب الامامين الصادق و الباقر (ع)، و عودة افكار الخطابية و غيرها بواسطة المتسترين بالتشيع في ذلك العصر، كل ذلك كان يدعوهم الي الاخذ بأقصي مراتب الحيطة والحذر في الراوي و الرواية، و قد قال شيخهم الصدوق: اول مراتب الغلو نفي السهو علي النبي (ص).

و يبدو بعد التتبع ان اجتهادات احمد بن محمد بن عيسي و رفاقه الاعلام في الرجال و الرواة كانت المصدر الأول للتجريح و التعديل عند اكثر من تأخر عنهم من المؤلفين في احوال الرواة منذ ذلك العصر حتي يومنا هذا و لم يخرج احد منهم عن الخطوط العريضة التي سلكها اولئك الاعلام، كما و ان احدا لم يدرس احوال الرواة دراسة موضوعية تطمئن النفس لنتائجها كما يبدو ذلك للمتتبع في تلك المؤلفات.

و كان ممن عاصر الامام العسكري من محدثي الشيعة وفقهائهم الحسين بن سعيد الاهوازي، و قال ابن النديم عنه و عن اخيه الحسن: انهما كانا اوسع اهل زمانهما في العلم و الفقه، و قد ألف من آثار الائمة في مختلف



[ صفحه 500]



المواضيع واشترك هو و أخوه في بعض المؤلفات المنسوبة اليه.

و منهم الحسن بن خالد البرقي صاحب التفسير الذي املاه عليه العسكري المعروف بتفسير العسكري كما جاء في بعض المرويات، و قد نفي جماعة صدوره من الامام (ع) و لعلهم اصابوا في ذلك كما يبدو للمتتبع في التفسير المذكور.

و منهم احمد بن اسحاق بن عبدالله بن سعد الاشعري، و كان علي حد تعبير بعض المؤلفين في احوال الرواة جليل القدر و من خاصة ابي محمد العسكري و هو شيخ القميين و رسولهم من مدينة قم الي الامام (ع) و ممن رأي صاحب الامر كما جاء في اتقان المقال، الي غير هؤلاء ممن لا يعنينا احصاؤهم.



[ صفحه 501]




پاورقي

[1] لعل اليمين في هذه الحالة للاستظهار. و يحتمل سقوط شي ء من العبارة و يكون الجواب و ان لم يشهد معه عدل آخر فعلي المدعي يمين و يكون القضاء بشاهد و يمين المدعي.

[2] لعل اليمين في هذه الحالة للاستظهار. و يحتمل سقوط شي ء من العبارة و يكون الجواب و ان لم يشهد معه عدل آخر فعلي المدعي يمين و يكون القضاء بشاهد و يمين المدعي.

[3] لعل السائل يريد أن يقول للامام (ع) انه اذا لم يقع الا علي ما يملكه البائع و قد فرضنا أنه باع جميع القرية فهل يجوز للشاهد اذا علم بحدود ما يملكه البائع في القرية أن يشهد علي بيع ذلك البعض بنسبة ما يستحقه من الثمن أم لا و بذلك يصبح السؤال معقولا.