بازگشت

منزلته


حظي الامام العسكري عليه السلام كسائر آبائه المعصومين عليهم السلام بمنزلة رفيعة و مكانة اجتماعية مرموقة، تتمثل بوافر من مظاهر التعظيم و التبجيل و الاحترام التي يكنها له غالب من عاصره بمن فيهم الذين خاصموه و ناوؤه و سجنوه، و ذلك للدرجات العالية من صفات الكمال و معالي الأخلاق التي يتحلي بها من العبادة و العلم و الحلم و الزهد و الكرم و الشجاعة و غيرها من مظاهر العظمة التي ميزت شخصه الكريم.

و لو استعرضنا ما نقله كتاب سيرته عليه السلام يتبين لنا سمو مكانته في المجتمع الاسلامي آنذاك، و أن أعداءه و أصدقاءه أجمعوا علي تعظيمه و تقديره و اكباره، بما في ذلك الوزراء و القواد و القضاة و الفقهاء و طبقات المجتمع كلها.

و هناك وثيقة تاريخية معتبرة تنقل لنا بعض أجواء و مظاهر ذلك التقدير و الاحترام و المكانة و الاجلال، صادرة من بعض رجال الدولة، و هو أحمد بن عبيدالله بن يحيي بن خاقان، عامل السلطان علي الضياع و الخراج في قم، و كان



[ صفحه 126]



أبوه وزير المعتمد [1] ، فقد جري يوما ذكر العلوية - أي المنتسبين الي الامام علي عليه السلام - و مذاهبهم، و كان شديد النصب و الانحراف عن أهل البيت عليهم السلام - و الفضل ما شهدت به الأعداء - فقال: «ما رأيت و لا عرفت بسر من رأي من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا في هديه و سكونه و عفافه و نبله و كبرته عند أهل بيته و بني هاشم كافة، و تقديمهم اياه علي ذوي السن منهم و الخطر، و كذلك كانت حاله عند القواد و الوزراء و عامة الناس».

فأنت تري أن له عليه السلام امتدادا من التعظيم في مواقع المجتمع كلها، سواء الذين يدينون بامامته أو الذين يقفون ضدها، و هو أمر يستحق التأمل، فكيف يستطيع شاب في مقتبل العمر أن يحظي بالتقديم علي ذوي السن و الخطر؟ و أن يتمتع بهذه المنزلة العالية و المكانة الكبيرة عند القواد و الوزراء، و عامة الناس، و هو في خط مضاد لموقع الخلافة، بل و يزدحم حوله الذين ينصبون له و لآبائه عليهم السلام العداوة و يكنون لهم البغضاء؟ لقد فرض الامام عليه السلام نفسه علي الواقع كله، بسموه الروحي و الخلقي، و عناصر العظمة التي يختزنها في شخصه و نشاطه الحركي في أوساط الامة.

و يتابع ابن خاقان حديثه فيقول: «فأذكر أنني كنت يوما قائما علي رأس أبي، و هو يوم مجلسه للناس، اذ دخل حجابه فقالوا: أبومحمد ابن الرضا بالباب، فقال بصوت عال: ائذنوا له، فتعجبت مما سمعت منهم، و من جسارتهم



[ صفحه 127]



أن يكنوا رجلا بحضرة أبي، و لم يكن يكني عنده الا خليفة، أو ولي عهد، أو من أمر السلطان أن يكني» ذلك لأن ذكر الكنية مظهر من مظاهر التكريم و الاجلال، فكيف يكني رجل بحضرة الوزير، و ليس هو خليفة و لا ولي عهد و لا ممن أمر السلطان بتكنيته؟ انه أمر ملفت للنظر و مثير للتعجب.

و يواصل فيقول: «فدخل رجل أسمر، حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن، حديث السن، له جلالة و هيئة حسنة، فلما نظر اليه أبي قام فمشي اليه خطي، و لا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم و القواد، فلما دنا منه عانقه و قبل وجهه و صدره، و أخذ بيده، و أجلسه علي مصلاه الذي كان عليه، و جلس الي جنبه مقبلا عليه بوجهه، و جعل يكلمه و يفديه بنفسه، و أنا متعجب مما أري منه، اذ دخل الحاجب فقال: الموفق - و هو أخو المعتمد العباسي - قد جاء، و كان الموفق اذا دخل علي أبي يقدمه حجابه و خاصه قواده، فقاموا بين مجلس أبي و بين باب الدار سماطين الي أن يدخل و يخرج، فلم يزل أبي مقبلا علي أبي محمد يحدثه حتي نظر الي غلمان الخاصة فقال حينئذ له: اذا شئت جعلني الله فداك، ثم قال لحجابه: خذوا به خلف السماطين لا يراه هذا - يعني الموفق - فقام و قام أبي فعانقه و مضي.

فقلت لحجاب أبي و غلمانه: ويلكم من هذا الذي كنيتموه بحضرة أبي، و فعل به أبي هذا الفعل؟ فقالوا: هذا علوي يقال له: الحسن بن علي، يعرف بابن الرضا، فازددت تعجبا، و لم أزل يومي ذلك قلقا مفكرا في أمره و أمر أبي و ما رأيته منه حتي كان الليل، و كانت عادته أن يصلي العتمة ثم يجلس فينظر فيما يحتاج اليه من المؤامرات - أي المراجعات - و ما يرفعه الي السلطان.



[ صفحه 128]



فلما صلي و جلس جئت فجلست بين يديه، و ليس عنده أحد، فقال لي: يا أحمد، ألك حاجة؟ فقلت: نعم يا أبه، فان أذنت سألتك عنها، فقال: قد أذنت. قلت: يا أبه، من الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الاجلال و الكرامة و التبجيل و فديته بنفسك و أبويك؟

فقال: يا بني ذاك امام الرافضة الحسن بن علي، المعروف بابن الرضا، ثم سكت ساعة و أنا ساكت، ثم قال: يابني، لو زالت الامامة عن خلفائنا بني العباس، ما استحقها أحد من بني هاشم غيره، لفضله و عفافه و هديه و صيانته و زهده و عبادته و جميل أخلاقه و صلاحه، و لو رأيت أباه، رأيت رجلا جزلا نبيلا فاضلا، فازددت قلقلا و تفكرا و غيظا علي أبي و ما سمعت منه فيه، و رأيت من فعله به، فلم يكن لي همة بعد ذلك الا السؤال عن خبره و البحث عن أمره. فما سألت أحدا من بني هاشم و القواد و الكتاب و القضاة و الفقهاء و سائر الناس الا وجدته عنده في غاية الاجلال و الاعظام و المحل الرفيع و القول الجميل و التقديم له علي جميع أهل بيته و مشايخه، فعظم قدره عندي، اذ لم أر له وليا و لا عدوا الا و هو يحسن القول فيه و الثناء عليه...». [2] .

و لسنا نريد من خلال شهادة أحد رجال الدولة أن ندخل في تقييم الامام لمجرد أن هذا الرجل شهد له، لأنه عليه السلام يختص من موقع امامته بالدرجة الرفيعة عند الله، و يتمتع بملكات قدسية في جميع جوانب المعرفة و الروحانية و الصلاح



[ صفحه 129]



و الخلق الرفيع، و هي التي جعلت هذا الرجل و سواه يذعن لشخصيته عليه السلام و يظهر له الاكبار و الاحترام و الثناء.

الذي نريد أن نقوله من خلال هذه الشهادة، أنه ليس ثمة شخصية كبيرة و فاعلة في المجتمع الا و هناك من يسي ء القول فيها، كما أن هناك من يحسن القول فيها، لكننا نجد أن الغالبية العظمي قد اتفقت علي تقدير الامام عليه السلام و احترامه و اجلاله، و علي حسن القول فيه، بحيث أخذ بمجامع قلوب و عقول الأعداء و الأصدقاء، هذا مع أنه عليه السلام عاش في مجتمع يقف من الناحية الرسمية ضد خط ولايته، و يعمل علي محاصرته و يضيق عليه و يسعي الي أن ينقص من قدره.

و تلك المنزلة لم تكن مفروضة بقوة السلاح و صولة السلطان، و لا هي وليدة التعاطف الجماهيري العفوي مع الامام عليه السلام، بل هي احدي مظاهر التسديد الالهي الذي لا تعمل معه جميع محاولات السلطة الساعية الي الحط من منزلته و الوضع منه، الأمر الذي اعترف به رأس السلطة آنذاك.

فقد روي الشيخ الصدوق و القطب الراوندي أنه ورد في رد الخليفة المعتمد علي جعفر الكذاب حينما جاء بعد وفاة أخيه الامام عليه السلام يطلب مرتبته، قوله: «ان منزلة أخيك لم تكن بنا، انما كانت بالله، و نحن كنا نجتهد في حط منزلته و الوضع منه، و كان الله يأبي الا أن يزيده كل يوم رفعة لما كان فيه من الصيانة و حسن السمت و العلم و العبادة...». [3] .

و يقع بعض النصاري في دائرة التقدير و الاحترام للامام عليه السلام، و منهم أحد رجال الدولة الذي كان يتولي الكتابة للسلطان، و اسمه أنوش النصراني، الذي



[ صفحه 130]



سأل السلطان أن يدعو الامام عليه السلام الي بيته ليشارك في مناسبة خاصة يدعو فيها لولديه بالسلامة و البقاء، فأرسل السلطان خادما جليل القدر الي دار الامام كي يدعوه الي حضور دار كاتبه أنوش، فأخبر الخادم الامام عليه السلام أن أنوش يقول: «نحن نتبرك بدعاء بقايا النبوة و الرسالة. فقال الامام عليه السلام: الحمد لله الذي جعل النصراني أعرف بحقنا من المسلمين. ثم قال: اسرجوا لنا. فركب حتي ورد دار أنوش، فخرج اليه مكشوف الرأس، حافي القدمين، و حوله القسيسون و الشمامسة [4] و الرهبان، و علي صدره الانجيل، فتلقاه علي باب داره و قال: يا سيدنا، أتوسل اليك بهذا الكتاب الذي أنت أعرف به منا الا غفرت لي ذنبي في عنائك. و حق المسيح عيسي بن مريم و ما جاء به من الانجيل من عند الله، ما سألت أميرالمؤمنين مسألتك [في] هذا الا لأنا وجدناكم في هذا الانجيل مثل المسيح عيسي بن مريم عند الله. فقال عليه السلام: الحمد لله...» [5] .

و لعل أبرز و أصدق مظاهر التبجيل و التعظيم التي تعبر عن مكانة الامام عليه السلام عند سائر الناس، هو ازدحام الناس علي جنازته عليه السلام الي حد وصفه بعض الرواة بالقيامة، فقد قال أحمد بن عبيدالله ابن خاقان في حديثه الذي قدمناه: «لما ذاع خبر وفاته صارت سر من رأي ضجة واحدة (مات ابن الرضا). و عطلت الاسواق، و ركب بنوهاشم و القواد و الكتاب و سائر الناس



[ صفحه 131]



الي جنازته، فكانت سر من رأي يومئذ شبيها بالقيامة». [6] .


پاورقي

[1] و هو عبيدالله بن يحيي بن خاقان التركي، ولد سنة 209 ه، و استوزره المتوكل و المعتمد، و استمر في الوزارة الي أن توفي سنة 263 ه، و كان عاقلا سمحا جوادا حازما. سير أعلام النبلاء 13: 9 / 5، أعلام الزركلي 4: 198.

[2] أصول الكافي 1: 503 / 1 باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليه السلام من كتاب الحجة، اكمال الدين: 40 - مقدمة المصنف، الارشاد 2: 321، روضة الواعظين: 249، اعلام الوري 2: 147.

[3] اكمال الدين: 479 - آخر باب 43، الخرائج و الجرائح 3: 1109.

[4] الشمامسة: جمع شماس، و هو خادم الكنيسة بالسريانية.

[5] مدينة المعاجز / السيد هاشم البحراني 7: 670 / 2655 عن الهداية الكبري للخصيبي.

[6] أصول الكافي 1: 505 / 1 - باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليه السلام من كتاب الحجة، اكمال الدين: 43 - المقدمة، الارشاد 2: 324.