بازگشت

رد الشبهات و ملاحقة الأفكار المنحرفة


هناك الكثير من الأخبار التي تدل علي أن الامام العسكري عليه السلام كان يتابع بدقة ما يجري علي الساحة الفكرية، فيلاحق الأفكار المنحرفة و الشبهات التي تطرح هنا و هناك في مواجهة الفكر الاسلامي الأصيل، خصوصا تلك التي تعمد الي تهديم الاسس الاسلامية علي المستوي العقائدي أو الفقهي، فكان يواجهها بالحجة و الاسلوب العلمي و الجدل الموضوعي.



[ صفحه 163]



أ - من ذلك ما نقله ابن شهرآشوب عن أبي القاسم الكوفي في كتاب التبديل: أن اسحاق الكندي [1] ، كان فيلسوف العراق في زمانه، أخذ في تأليف تناقض القرآن، و شغل نفسه بذلك، و تفرد به في منزله، فسلط الامام عليه السلام عليه أحد طلابه بكلام قاله له، مما جعله يتوب و يحرق أوراقه.

و ملخص الفكرة التي أبداها الامام عليه السلام للتلميذ، هي احتمال أن يكون المراد بالآيات القرآنية غير المعاني التي فهمها و ذهب اليها، باعتبار أن اللغة العربية مرنة متحركة، فقد يفهم بعض الناس الكلام علي أنه الحقيقة و هو من المجاز، و قد يفهم أن المراد هو المعني اللغوي و المقصود هو المعني الكنائي.

و طلب الامام عليه السلام من تلميذ الكندي أن يتلطف في مؤانسة استاذه قبل القاء الاحتمال، و وصفه عليه السلام بقوله: «انه رجل يفهم اذا سمع». فصار التلميذ الي الكندي، و ألقي اليه ذلك الاحتمال، فتفكر في نفسه، و رأي أن ذلك محتمل في اللغة، و سائغ في النظر.

فقال: «أقسمت عليك الا أخبرتني من أين لك هذا؟ فقال: انه شي ء عرض بقلبي فأوردته عليك. فقال: كلا، ما مثلك من اهتدي الي هذا، و لا من بلغ هذه المنزلة، فعرفني من أين لك هذا؟ فقال: أمرني به أبومحمد. فقال: الآن جئت به، و ما كان ليخرج مثل هذا الا من ذلك البيت. ثم انه دعا بالنار و أحرق



[ صفحه 164]



جميع ما كان ألفه» [2] .

و في هذا الخبر دلالات مهمة جديرة بالذكر:

1- ان الامام الحسن العسكري عليه السلام كان يتابع حركة الثقافة في زمانه، و كان يتحرك علي كل الاتجاهات المضادة التي تنطلق في مواجهة الاسلام، فلم يكن خارج نطاق الواقع الثقافي، و هذا ينطلق من مسؤولية الامام عن تصحيح المسار الاسلامي في كل ما يمكن أن يعرض عليه من الانحرافات.

2- يستوحي من هذه القصة أنك عندما تريد أن تحاور انسانا و تجادله، فلا يكن العنف سبيلك الي ذلك، و لا يكن القلب القاسي و سيلتك الي الانفتاح عليه، بل حاول أن تتلطف به أولا و أن تؤانسه ثانيا، حاول أن تربح قلبه قبل أن تخاطب عقله، لأن أقرب طريق الي عقل الانسان هو قلبه.

3- الاسلوب الذي اتبعه الامام عليه السلام في مخاطبة هذا العالم هو الانفتاح علي علمه و تفكيره، حيث ألقي اليه الفكرة علي سبيل الاحتمال ليدفعه الي التأمل.

4- ان قول الكندي «لقد علمت أنه لا يخرج هذا الا من أهل هذا البيت» يدل علي الثقة العلمية العالية التي كان يحملها الفلاسفة و المثقفون في علم أهل البيت عليهم السلام، مما يوحي أنهم كانوا قد بلغوا القمة في العلم حتي خضع الآخرون لعلمهم، و انحنوا لهذا المستوي الكبير من الثقافة.

ب - و هناك حديث آخر يحاول الامام العسكري عليه السلام أن يرد فيه بعض الشبهات، رواه ثقة الاسلام الكليني باسناده عن اسحاق بن محمد النخعي، قال: «سأل الفهفكي أبامحمد عليه السلام: ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهما



[ صفحه 165]



واحدا و يأخذ الرجل سهمين؟ فقال أبومحمد عليه السلام: ان المرأة ليس عليها جهاد و لا نفقة و لا عليها معقلة، انما ذلك علي الرجال، فقلت في نفسي: قد كان قيل لي: ان ابن أبي العوجاء سأل أباعبدالله عليه السلام عن هذة المسألة، فأجابه بهذا الجواب، فأقبل أبومحمد عليه السلام علي. فقال: نعم، هذه المسألة مسألة ابن أبي العوجاء، و الجواب منا واحد اذا كان معني المسألة واحدا، جري لآخرنا ماجري لأولنا، و أولنا و آخرنا في العلم سواء، و لرسول الله صلي الله عليه و آله و أميرالمؤمنين عليه السلام فضلهما». [3] .

ج - لقد اثيرث مسألة خلق القرآن منذ زمان المأمون، و انقسم العلماء فيها الي قسمين، فمنهم من قال بقدم كلام الله سبحانه، و منهم من قال بحدوثه، مما أدي الي خلق فتنة و محنة راح ضحيتها الكثير من الأعلام، و كان جواب الأئمة عليهم السلام المعاصرين لتلك المحنة واضحا، يقوم علي أساس التفريق بين كلام الله تعالي و بين علمه، فكلامه تعالي محدث و ليس بقديم، قال تعالي: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) [4] ، و أما علمه فقديم قدم ذاته المقدسة، و هو من الصفات التي هي عين ذاته.

و نري بعض امتدادات هذه المسألة في زمان الامام العسكري عليه السلام، فقد روي عن أبي هاشم الجعفري أنه قال: «فكرت في نفسي، فقلت: أشتهي أن أعلم ما يقول أبومحمد عليه السلام في القرآن؟ فبدأني و قال: الله خالق كل شي ء، و ما



[ صفحه 166]



سواه و فهو مخلوق». [5] .

د - تقدمت الاشارة الي أن الامام العسكري عليه السلام تصدي لكشف واحد من أهم وسائل التموية و التلبيس علي أذهان العامة، حين حاول أحد الرهبان تضليل العقول الضعيفة و تشكيكهم في دينهم، فكشف الامام عليه السلام زيف ذلك الراهب و كذبه و بين وسائل تمويهه، و ذلك في حادثة الاستسقاء الشهيرة التي تواطأت علي نقلها الكثير من المصادر. [6] .

ه - تصدي الامام العسكري عليه السلام لبعض الاتجاهات العقائدية المنحرفة و الفرق الضالة و منهم الغلاة الذين كانوا في زمانه، و هم الذين خرجوا عن الجادة و وصفوا الأئمة عليهم السلام بصفات الالوهية، فتبرأ أهل البيت عليهم السلام منهم و لعنوهم و حاربوا مقالاتهم الباطلة. و من هؤلاء ادريس بن زياد الكفر توثائي، قال: «كنت أقول فيهم قولا عظيما، فخرجت الي العسكر للقاء أبي محمد عليه السلام، فقدمت و علي أثر السفر و وعثاؤه، فألقيت نفسي علي دكان حمام فذهب بي النوم، فما انتبهت الا بمقرعة أبي محمد عليه السلام قد قرعني بها حتي استيقظت، فعرفته فقمت قائما اقبل قدميه و فخده و هو راكب و الغلمان من حوله، فكان أول ما تلقاني به أن قال: يا ادريس (بل عباد مكرمون - لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون) [7] فقلت: حسبي يا مولاي، و انما جئت أسألك عن هذا. قال:



[ صفحه 167]



فتركني و مضي». [8] .

و يبدو من بعض الأخبار أن الامام العسكري عليه السلام كان لا يترحم علي الغلاة و لو كانوا من الوالدين، و ذلك لكي يؤدب أصحابه للوقوف بشدة ضد هذه النزعة الهدامة، فقد نقل الحميري في الدلائل عن أبي سهل البلخي، قال: «كتب رجل الي أبي محمد يسأله الدعاء، لوالديه، و كانت الام غالية، و الأب مؤمنا، فوقع عليه السلام: رحم الله والدك». [9] .

و من هؤلاء أيضا الواقفة، و هم الذين وقفوا علي الامام الكاظم عليه السلام بسبب بعض النوازع المادية، حيث تجمعت لديهم أموال طائلة من الحقوق المالية في وقت كان فيه الامام عليه السلام في سجن الرشيد، فطمعوا فيها و ادعوا بعد شهادة الامام عليه السلام أنه حي لم يمت، و اصبح الوقف تيارا فكريا يتبناه بعض من لم تترسخ لديه مبادئ العقيدة الحقة، فيقف عند بعض الأئمة عليهم السلام. و قد صرح الامام العسكري عليه السلام بالبراءة منهم، و دعا أصحابه الي أن لا يعودوا مرضاهم و لا يشهدوا جنائزهم و لا يصلوا عليهم.

و منه ما رواه الاربلي و القطب الراوندي بالاسناد عن أحمد بن محمد بن مطهر، قال: «كتب بعض أصحابنا الي أبي محمد عليه السلام من أهل الجبل، يسأله عمن وقف علي أبي الحسن موسي عليه السلام أتولاهم أم أتبرأ منهم؟ فكتب عليه السلام: أتترحم علي عمك؟ لا رحم الله عمك. و تبرأ منه، أنا الي الله منهم بري ء، فلا تتولاهم، و لا تعد مرضاهم، و لا تشهد جنائزهم، و لا تصل علي أحد منهم



[ صفحه 168]



مات أبدا.

من جحد اماما من الله، أو زاد اماما ليست امامته من الله، كان كمن قال ان الله ثالث ثلاثة، ان الجاحد أمر آخرنا جاحد أمر أولنا، و الزائد فينا كالناقص الجاحد أمرنا...». [10] .

و روي الكشي بالاسناد عن ابراهيم بن عقبة، قال: «كتبت الي العسكري عليه السلام: جعلت فداك، قد عرفت هؤلاء الممطورة، فأقنت عليهم في الصلاة؟ قال عليه السلام: نعم، اقنت عليهم في صلاتك». [11] .

و تصدي الامام عليه السلام لمقالات الثنوية، فقد روي ثقة الاسلام الكليني بالاسناد عن محمد بن الربيع الشائي، قال: «ناظرت رجلا من الثنوية بالأهواز، ثم قدمت سر من رأي و قد علق بقلبي شي ء من مقالته، فاني لجالس علي باب أحمد بن الخضيب اذ أقبل أبومحمد عليه السلام من دار العامة يوم الموكب، فنظر الي و أشار بسبابته: أحد أحد فرد، فسقطت مغشيا علي». [12] .

و أدب أصحابه علي عدم الترحم عليهم و لو كانوا ذوي قربي، فقد نقل الاربلي عن دلائل الحميري بالاسناد عن أبي سهل البلخي، قال: «كتب رجل يسأل الدعاء لوالديه، و كانت الأم مؤمنة، و الأب ثنويا، فوقع: رحم الله والدتك، والتاء، منقوطة». [13] .



[ صفحه 169]



و وقف الامام العسكري عليه السلام بوجه بعض الوضاعين و الصوفية المتصنعين، و عرف أصحابه بسوء نواياهم، و أمرهم بالبراءة منهم لئلا يفسدوا عقائدهم، و منهم عروة بن يحيي الدهقان الذي كان يكذب علي الامام عليه السلام و علي أبيه من قبله، و يختلس الأموال التي ترد علي الامام عليه السلام.

روي الكشي بالاسناد عن محمد بن موسي الهمداني، قال: «ان عروة بن يحيي البغدادي المعروف بالدهقان (لعنه الله) كان يكذب علي أبي الحسن علي بن محمد ابن الرضا عليه السلام و علي أبي محمد الحسن بن علي عليه السلام بعده، و كان يقتطع أمواله لنفسه دونه، و يكذب عليه حتي لعنه أبومحمد عليه السلام و أمر شيعته بلعنه، و دعا عليه بقطع الأموال لعنه الله». [14] .

و في المناقب لابن شهرآشوب: «كان عروة الدهقان كذب علي علي بن محمد ابن الرضا، و علي أبي محمد الحسن بن علي العسكري بعده، ثم أنه أخذ بعض أمواله فلعنه أبومحمد عليه السلام، فما أمهل يومه ذلك و ليلته حتي قبض الي النار». [15] .

و منهم أحمد بن هلال العبرتائي، الذي عده الشيخ الطوسي من الوكلاء المذمومين [16] ، و كان يتظاهر بالتدين و الورع و الزهد، و يخفي الانحراف في العقيدة و العمل و سوء الطوية، فأطلق عليه الامام عليه السلام لفظ (الصوفي المتصنع) و كتب الي أصحابه يحذرهم اياه و يبين سوء سيرته و فساد مذهبه في أكثر من توقيع.

قال الشيخ الطوسي: «روي محمد بن يعقوب، قال: خرج الي العمري في



[ صفحه 170]



توقيع طويل اختصرناه: و نحن نبرأ الي الله تعالي من ابن هلال لارحمه الله، و ممن لايبرأ منه، فأعلم الاسحاقي و أهل بلده مما أعلمناك من حال هذا الفاجر، و جميع من كان سألك و يسألك عنه» [17] .

و روي الكشي بالاسناد عن أبي حامد أحمد بن ابراهيم المراغي، قال: «ورد علي القاسم بن العلاء نسخة ما كان خرج من لعن ابن هلال، و كان ابتداء ذلك أن كتب عليه السلام الي قوامه بالعراق: احذروا الصوفي المتصنع.

قال: و كان من شأن أحمد بن هلال أنه قد كان حج أربعا و خمسين حجة، عشرون منها علي قدميه، قال: و كان رواة أصحابنا بالعراق لقوه و كتبوا منه، فأنكروا ما ورد في مذمته، فحملوا القاسم بن العلاء علي أن يراجع في أمره، فخرج اليه: قد كان أمرنا نفذ اليك في المتصنع ابن هلال لارحمه الله بما قد علمت، لم يزل - لا غفر الله له ذنبه و لا أقاله عثرته - يداخل في أمرنا بلا اذن منا و لا رضئ، يستبد برأيه، فيتحامي من ديوننا، لا يمضي من أمرنا اياه الا بما يهواه و يريد، أرداه الله في نار جهنم، فصبرنا عليه حتي بتر الله عمره بدعوتنا، و كنا قد عرفنا خبره قوما من موالينا، في أيامه، لا رحمه الله، و أمرناهم بالقاء ذلك الي الخاص من موالينا و نحن نبرأ الي الله من ابن هلال لا رحمه الله و من لا يبرأ منه... الي أن يقول عليه السلام: فانه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يؤديه عنا ثقاتنا، قد عرفوا بأننا نفاوضهم سرنا و نحمله اياه اليهم...» الي آخر التوقيع [18] .



[ صفحه 171]




پاورقي

[1] كذا، و اسم الكندي اذا أريد به فيلسوف العراق فهو يعقوب بن اسحاق، و كان معاصرا للامام عليه السلام حيث توفي سنة 260 ه، و قيل: انه هم بأن يعمل شيئا مثل القرآن، ثم أذعن بالعجز... راجع: سير أعلام النبلاء 12: 337 / 134، الاعلام للزركلي 8: 195.

[2] المناقب / لابن شهرآشوب 4: 457.

[3] الكافي 7: 85 / 2 - باب علة كيف صار للذكر سهمان و للانثي سهم، من كتاب المواريث.

[4] سورة الأنبياء: 21 / 2.

[5] الثاقب في المناقب: 568 / 511، الخرائج و الجرائح 2: 686 / 6.

[6] راجع آخر الفصل الثاني من هذا الكتاب.

[7] سورة الأنبياء: 21 / 26 - 27.

[8] المناقب / لابن شهرآشوب 4: 461.

[9] كشف الغمة 3: 306، بحارالأنوار 50: 294 / 69.

[10] كشف الغمة 3: 312، بحارالأنوار 50: 274 / 46 عن الخرائج و الجرائح.

[11] رجال الكشي 2: 762 / 875.

[12] أصول الكافي 1: 511 / 20 باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليه السلام من كتاب الحجة.

[13] أصول الكافي 1: 511 / 20 باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليه السلام من كتاب الحجة.

[14] رجال الكشي 2: 842 / 1086.

[15] المناقب 4: 467.

[16] راجع: الغيبة: 353 / 313.

[17] الغيبة 353 / 313.

[18] رجال الكشي 2: 816 / 1020.