بازگشت

دوره في التشريع


لا ريب أن دور الأئمة عليهم السلام في تبليغ أحكام الشريعة و التحديث و الافتاء يختلف بحسب الظروف السياسية المحيطة بهم، و مقدار الحرية المتاحة لهم، و قد



[ صفحه 179]



ذكرنا أن امامنا العسكري عليه السلام كان رهينة بيد السلطة التي مارست معه أعلي حالات التغييب و الاقصاء، فضلا عن أنه عليه السلام كان محكوما بحالة الاحتجاب التي يهي ء من خلالها شيعته لزمان الغيبة.

و رغم هذا و ذاك استطاع امامنا الممتحن عليه السلام أن يقدم اسهامات جادة علي طريق الحفاظ علي أصول الشريعة و قيم الرسالة، و ايصال سنن جده المصطفي و آبائه الكرام (صلوات الله عليهم) الي قطاعات واسعة من الامة، و ذلك علي يد ثلة من أصحابه و وكلائه و طلاب مدرسته الفقهاء الرواة المنتشرين في طول البلاد و عرضها، الذين حرصوا علي تبليغ رسالته عليه السلام و ايصال كتبه و رسائله، و هي تحمل أحكام الشريعة و فكرها الأصيل، الي قواعده في مختلف ديار الاسلام.

و يمكن أن نتلمس دور الامام عليه السلام في تبليغ أحكام الشريعة من خلال النقاط التالية:

اولا: الرسائل و المسائل التي رواها عنه عليه السلام أصحابه أو أخرجها اليهم، سيما التي تخص أحكام الدين و علم الحلال و الحرام، و قد ذكرناها في أول هذا المبحث...

ثانيا: ما روي عنه عليه السلام مكاتبة أو مشافهة في مجال الأحكام و السنن، و قد بلغت أكثر من مئة حديث كما في مسنده عليه السلام [1] ، و هي موزعة علي أبواب الفقه و موضوعاته المختلفة.

و روي عنه العامة حديثا في تحريم الخمر و اعتمدوه في بعض مصنفاتهم،



[ صفحه 180]



قال سبط ابن الجوزي في ترجمة الامام عليه السلام: «كان عالما ثقة، روي الحديث عن أبيه عن جده... و من جملة مسانيده حديث في الخمر عزيز، ذكره جدي أبوالفرج في كتابه المسمي (تحرير الخمر) و نقلته من خطه و سمعته يقول» ثم أورد الاسناد من جده الي أحمد بن عبدالله السبيعي، عن الحسن بن علي العسكري عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام، عن رسول الله صلي الله عليه و آله، عن جبرئيل، عن ميكائيل، عن اسرافيل، عن اللوح المحفوظ، و لفظ الحديث «شارب الخمر كعابد الوثن.»

قال: «و لما روي جدي هذا الحديث في كتاب (تحريم الخمر) قال: قال أبونعيم الفضل بن دكين: هذا حديث صحيح ثابت روته العترة الطيبة الطاهرة، و رواه جماعة عن رسول الله صلي الله عليه و آله منهم: ابن عباس، و أبوهريرة، و أنس، و عبدالله بن أبي أوفي الأسلمي في آخرين» [2] .

ثالثا: تنشئة جيل من أصحابه الرواة و الفقهاء و المؤلفين، و لا ريب أن دور الامام عليه السلام و ملامح عمله تنكشف من خلال عمل أتباعه المعتمدين، و يتعمق ذلك بمقدار اشتداد الظروف الداعية الي السرية و الاحتجاب.

و قد حرص الامام العسكري عليه السلام علي الاتصال بأقطاب مدرسة آبائه عليهم السلام من خلال ممثليه من القيمين و الوكلاء المنتشرين في البلدان، باتباع اسلوب المكاتبة و المراسلة، و كان عليه السلام يتبع مختلف الوسائل لاضفاء طابع السرية علي الاتصال بهم، حتي ورد أنه عليه السلام كان يضع الكتب في خشبة كأنها رجل باب مدورة طويلة مل ء الكف، و يدفعها الي أحد الخدم ليوصلها الي العمري، كما



[ صفحه 181]



ورد في رواية دواد بن الأسود [3] .

و بالمقابل كان أصحابه يتفانون لأجل اللقاء به، فاذا حظي أحدهم بذلك، لم تطب نفسه أن يفوته حديثه و لو أضناه العطش، روي ابن شهر آشوب عن أبي العباس محمد بن القاسم، قال: «عطشت عند أبي محمد عليه السلام، و لم تطب نفسي أن يفوتني حديثه، و صبرت علي العطش و هو يتحدث، فقطع الكلام و قال: يا غلام اسق أباالعباس ماء» [4] .

و كانوا يدققون في معرفة خطه عليه السلام لتفادي حالة الوضع و التزوير، فيطلبون منه عليه السلام أن يكتب لهم نموذجا من خطه، و منهم أحمد بن اسحاق الأشعري القمي، و كان من خاصته و ثقاته، و موفد القميين الي الامام عليه السلام، قال: «دخلت علي أبي محمد عليه السلام فسألته أن يكتب لأنظر الي خطه فأعرفه اذا ورد، فقال: نعم، ثم قال: يا أحمد، ان الخط سيختلف عليك ما بين القلم الغليظ و القلم الدقيق فلا تشكن، ثم دعا بالدواة...» [5] .

و كانوا يدفعون كتبهم و ما يجب عليهم من الأموال الي الوكلاء الذين يغطون علي عملهم بمختلف الوسائل، فكان أبوعمر و عثمان بن سعيد العمري يجعلها في جراب السمن و زقاقه و يحملها الي الامام العسكري عليه السلام تقية و خوفا، و قد قيل له السمان لأنه كان يتجر في السمن تغطيه علي هذا الأمر [6] .



[ صفحه 182]



و كان بعضهم يكاتب الامام عليه السلام عن طريق الخدم، فقد كتب جعفر بن محمد القلانسي كتابا الي الامام العسكري عليه السلام يسأله عن مسائل كثيرة، و دفعه مع محمد بن عبدالجبار الخادم ليوصله اليه عليه السلام... [7] .

و مارس الامام عليه السلام دور التربية و التوجيه و الاعداد لخاصة أصحابه و قاعدته المؤمنة بمرجعيته الفكرية و الروحية، لتحصينهم من الانحراف العقائدي و الفكري، و تسليحهم بالفقه و المعرفة، و نظرة واحدة الي رسائله و وصاياه التي قدمناه بعضها، تعتبر خير دليل علي متابعة الامام عليه السلام لأصحابه و اشرافه علي مختلف شؤونهم.

و كان من نتائج ذلك الاشراف و التواصل بين الامام عليه السلام و قاعدته أن اكتملت في عصره عليه السلام معالم مدرسة الفقهاء الرواة الذين كانوا يعيشون في أوساط الناس، و ينقلون اليهم الأحكام و السنن و العقائد، و استوفت تلك المدرسة كل متطلبات المدرسة العلمية من حيث المنهج و المصدر و المادة، و مهدت بذلك لعهد الغيبة الصغري حيث انبثقت عنها مدرسة الفقهاء المحدثين [8] .

و لغرض الاطلاع علي سعة تلك المدرسة و امتداد مرجعية الامام العسكري عليه السلام و مكانته العلمية و دروه في التشريع، نذكر بعض أقطاب تلك المدرسة الثقات و المؤلفين و كما يلي:



[ صفحه 183]




پاورقي

[1] راجع: مسند الامام العسكري عليه السلام / العطاردي: 239 - 280.

[2] تذكرة الخواص: 324.

[3] مناقب ابن شهر آشوب 4: 460.

[4] مناقب ابن شهر آشوب 4: 472.

[5] مناقب ابن شهر آشوب 4: 466.

[6] راجع: غيبة الشيخ الطوسي: 354.

[7] كشف الغمة 3: 296، بحارالأنوار 50: 298.

[8] راجع تاريخ التشريع الاسلامي / د. عبدالهادي الفضلي: 194 و مابعدها - دار الكتاب الاسلامي - 1414 ه.