بازگشت

تلطفه لابنه المهدي


1 - الشيخ الصدوق(ره):... أحمد بن إسحاق بن سعد، قال:

سمعت أبا محمّد الحسن بن عليّ العسكريّ(عليهما السلام) يقول: الحمد للّه الذي لم يخرجني من الدنيا حتّي أراني الخلف من بعدي.... [1] .

2 - الشيخ الصدوق(ره): حدّثنا محمّد بن عليّ بن محمّد بن حاتم النوفليّ، المعروف بالكرمانيّ، قال: حدّثنا أبو العبّاس أحمد بن عيسي الوشّاء البغداديّ، قال: حدّثنا أحمد بن طاهر القمّيّ، قال: حدّثنا محمّد بن بحر بن سهل الشيبانيّ، عن سعد بن عبد الله القمّيّ، قال: كنت امرءً لهجاً بجمع الكتب المشتملة علي غوامض العلوم ودقائقها كلفاً باستظهار ما يصحّ لي من حقائقها، مغرماً بحفظ مشتبهها ومستغلقها، شحيحاً علي ما أظفر به من معضلاتها ومشكلاتها، متعصّباً لمذهب الإماميّة، راغباً عن الأمن والسلامة في انتظار التنازع، والتخاصم، والتعدّي إلي التباغض والتشاتم، معيباً للفرق ذوي الخلاف، كاشفاً عن مثالب أئمّتهم، هتّاكاً لحجب قادتهم، إلي أن بليت بأشدّ



[ صفحه 43]



النواصب منازعةً، وأطولهم مخاصمةً، وأكثرهم جدلاً، وأشنعهم سؤالاً، وأثبتهم علي الباطل قدماً.

فقال ذات يوم - وأنا أناظره -: تبّاً لك ولأصحابك ياسعد! إنّكم معاشر الرافضة تقصدون علي المهاجرين والأنصار بالطعن عليهما، وتجحدون من رسول الله ولايتهما وإمامتهما، هذا الصدّيق الذي فاق جميع الصحابة بشرف سابقته.

أما علمتم أنّ رسول الله ما أخرجه مع نفسه إلي الغار إلّا علماً منه أنّ الخلافة له من بعده، وأنّه هو المقلّد لأمر التأويل، والملقي إليه أزمّة الأُمّة، وعليه المعوّل في شعب الصدع، ولمّ الشعث، وسدّ الخلل، وإقامة الحدود، وتسريب الجيوش لفتح بلاد الشرك.

وكما أشفق علي نبوّته أشفق علي خلافته، إذ ليس من حكم الاستتار والتواري أن يروم الهارب من الشرّ مساعدة إلي مكان يستخفي فيه.

ولمّا رأينا النبيّ متوجّهاً إلي الانجحار ولم تكن الحال توجب استدعاء المساعدة من أحد، استبان لنا قصد رسول الله بأبي بكر للغار للعلّة التي شرحناها.

وإنّما أبات عليّاً علي فراشه لمالم يكن يكترث به، ولم يحفل به لاستثقاله ولعلمه بأنّه إن قتل لم يتعذّر عليه نصب غيره مكانه للخطوب التي كان يصلح لها.

قال سعد: فأوردت عليه أجوبة شتّي، فمازال يعقّب كلّ واحد منها بالنقض، والردّ عليّ، ثمّ قال: يا سعد! ودونكها أُخري بمثلها تخطم أنوف الروافض، ألستم تزعمون أنّ الصدّيق المبرّأ من دنس الشكوك، والفاروق المحامي عن بيضة الإسلام كانا يسرّان النفاق، واستدللتم بليلة العقبة، أخبرني عن الصدّيق والفاروق أسلما طوعاً، أو كرهاً؟



[ صفحه 44]



قال سعد: فاحتلت لدفع هذه المسألة عنّي خوفاً من الإلزام، وحذراً من أنّي إن أقررت له بطوعهما للإسلام احتجّ بأنّ بدء النفاق، ونشأه في القلب لا يكون إلّا عند هبوب روائح القهر والغلبة، وإظهار البأس الشديد في حمل المرء علي من ليس ينقاد إليه قلبه نحو قول الله تعالي: (فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ و وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا [2] بِهِ ي مُشْرِكِينَ - فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَنُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا)

وإن قلت أسلما كرهاً كان يقصدني بالطعن، إذ لم تكن ثمّة سيوف منتضاة كانت تريهما البأس.

قال سعد: فصدرت عنه مزوّراً قد انتفخت أحشائي من الغضب، وتقطّع كبدي من الكرب، وكنت قد اتّخذت طوماراً وأثبتّ فيه نيّفاً وأربعين مسألة من صعاب المسائل لم أجد لها مجيباً علي أن أسأل عنها خبير أهل بلدي أحمد بن إسحاق صاحب مولانا أبي محمّد(عليه السلام) فارتحلت خلفه.

وقد كان خرج قاصداً نحو مولانا بسرّ من رأي، فلحقته في بعض المنازل، فلمّا تصافحنا قال: بخير لحاقك بي؟!

قلت: الشوق، ثمّ العادة في الأسئلة.

قال: قد تكافينا علي هذه الخطّة الواحدة، فقد برّح بي القرم [3] إلي لقاء مولانا

أبي محمّد(عليه السلام) وأنا أريد أن أسأله عن معاضل في التأويل، ومشاكل في التنزيل، فدونكها الصحبة المباركة، فإنّها تقف بك علي ضفّة [4] بحر لا تنقضي عجائبه، ولا تفني غرائبه وهو إمامنا.



[ صفحه 45]



فوردنا سرّ من رأي فانتهينا منها إلي باب سيّدنا، فاستأذّنا، فخرج علينا الآذن بالدخول عليه.

وكان علي عاتق أحمد بن إسحاق جراب [5] قد غطّاه بكساء طبريّ فيه مائة وستّون صرّة من الدنانير والدراهم علي كلّ صرّة منها ختم صاحبها.

قال سعد: فما شبّهت وجه مولانا أبي محمّد(عليه السلام) حين غشينا نور وجهه إلّا ببدر قد استوفي من لياليه أربعاً بعد عشر، وعلي فخذه الأيمن غلام يناسب المشتري في الخلقة والمنظر، علي رأسه فرق بين وفرتين، كأنّه ألف بين واوين، وبين يدي مولانا رمّانة ذهبيّة تلمع بدائع نقوشها وسط غرائب الفصوص المركّبة عليها، قد كان أهداها إليه بعض رؤساء أهل البصرة.

وبيده قلم إذا أراد أن يسطر به علي البياض شيئاً قبض الغلام علي أصابعه، فكان مولانا يدحرج الرمّانة بين يديه ويشغله بردّها كيلا يصدّه عن كتابة ماأراد، فسلّمنا عليه، فألطف في الجواب وأومأ إلينا بالجلوس.

فلمّا فرغ من كتبة البياض الذي كان بيده أخرج أحمد بن إسحاق جرابه من طيّ كسائه، فوضعه بين يديه، فنظر الهادي(عليه السلام) إلي الغلام، وقال له: يابنيّ! فضّ الخاتم عن هدايا شيعتك ومواليك.

فقال: يا مولاي! أيجوز أن أمدّ يداً طاهرةً إلي هدايا نجسة، وأموال رجسة، قد شيب أحلّها بأحرمها؟

فقال مولاي: يا ابن إسحاق! استخرج ما في الجراب ليميّز ما بين الحلال والحرام منها، فأوّل صرّة بدأ أحمد بإخراجها.

قال الغلام: هذه لفلان بن فلان من محلّة كذا بقمّ يشتمل علي اثنتين وستّين



[ صفحه 46]



ديناراً فيها من ثمن حجيرة باعها صاحبها، وكانت إرثاً له عن أبيه خمسة وأربعون ديناراً، ومن أثمان تسعة أثواب أربعة عشر ديناراً، وفيها من أجرة الحوانيت ثلاثة دنانير.

فقال مولانا: صدقت يا بنيّ! دلّ الرجل علي الحرام منها.

فقال(عليه السلام): فتّش عن دينار رازيّ السكّة تاريخه سنة كذا قد انطمس من نصف إحدي صفحتيه نقشه، وقراضة آمليّة وزنها ربع دينار، والعلّة في تحريمها أنّ صاحب هذه الصرّة وزن في شهر كذا من سنة كذا علي حائك من جيرانه من الغزل منّاً وربع منّ، فأتت علي ذلك مدّة، وفي انتهائها قيّض لذلك الغزل سارق، فأخبر به الحائك صاحبه، فكذّبه واستردّ منه بدل ذلك منّاً ونصف منّ غزلاً، أدقّ ممّا كان دفعه إليه، واتّخذ من ذلك ثوباً كان هذا الدينار مع القراضة ثمنه.

فلمّا فتح رأس الصرّة صادف رقعة في وسط الدنانير باسم من أخبر عنه وبمقدارها علي حسب ما قال، واستخرج الدينار والقراضة بتلك العلامة.

ثمّ أخرج صرّة أُخري، فقال الغلام: هذه لفلان بن فلان من محلّة كذا بقمّ تشتمل علي خمسين ديناراً، لا يحلّ لنا لمسها، قال: وكيف ذاك؟

قال: لأنّها من ثمن حنطة حاف صاحبها علي أكّاره في المقاسمة، وذلك أنّه قبض حصّته منها بكيل واف، وكان ما حصّ الأكّار بكيل بخس.

فقال مولانا: صدقت يا بنيّ! ثمّ قال: يا أحمد بن إسحاق! احملها بأجمعها لتردّها، أو توصي بردّها علي أربابها، فلا حاجة لنا في شي ء منها، وائتنا بثوب العجوز.

قال أحمد: وكان ذلك الثوب في حقيبة [6] لي فنسيته.



[ صفحه 47]



فلمّا انصرف أحمد ابن إسحاق ليأتيه بالثوب نظر إليّ مولانا أبومحمّد(عليه السلام)، فقال: ما جاء بك يا سعد!؟

فقلت: شوّقني أحمد بن إسحاق علي لقاء مولانا.

قال: والمسائل التي أردت أن تسأله عنها؟

قلت: علي حالها يامولاي.

قال: فسل قرّة عيني - وأومأ إلي الغلام -.

فقال لي الغلام: سل! عمّا بدالك منها.

فقلت له: مولانا وابن مولانا! إنّا روينا عنكم أنّ رسول الله(صلي الله عليه و اله وسلم) جعل طلاق نسائه بيد أمير المؤمنين(عليه السلام) حتّي أرسل يوم الجمل إلي عائشة أنّك قدأرهجت [7] علي الإسلام وأهله بفتنتك، وأوردت بنيك حياض الهلاك بجهلك،

فإن كففت عنّي غربك [8] وإلّا طلّقتك، ونساء رسول الله(صلي الله عليه و اله وسلم) قدكان طلاقهنّ وفاته؟

قال(عليه السلام): ما الطلاق؟ قلت: تخلية السبيل.

قال: فإذا كان طلاقهنّ وفاة رسول الله(صلي الله عليه و اله وسلم) قد خليت لهنّ السبيل، فلم لايحلّ لهنّ الأزواج.

قلت: لأنّ الله تبارك وتعالي حرّم الأزواج عليهنّ.

قال: كيف وقد خلّي الموت سبيلهنّ؟!

قلت: فأخبرني يا ابن مولاي عن معني الطلاق الذي فوّض رسول الله(صلي الله عليه و اله وسلم) حكمه إلي أمير المؤمنين(عليه السلام)؟

قال: انّ الله تقدّس اسمه عظّم شأن نساء النبيّ(صلي الله عليه و اله وسلم) فخصّهنّ بشرف



[ صفحه 48]



الأُمّهات، فقال رسول الله: يا أبا الحسن! إنّ هذا الشرف باق لهنّ ما دمن للّه علي الطاعة، فأيّتهنّ عصت الله بعدي بالخروج عليك، فأطلق لها في الأزواج وأسقطها من شرف أمومة المؤمنين.

قلت: فأخبرني عن الفاحشة المبيّنة التي إذا أتت المرأة بها في عدّتها حلّ للزوج أن يخرجها من بيته؟

قال: الفاحشة المبيّنة هي السحق دون الزنا، فإنّ المرأة إذا زنت وأقيم عليها الحدّ ليس لمن أرادها أن يمتنع بعد ذلك من التزوّج بها لأجل الحدّ، وإذا سحقت وجب عليها الرجم، والرجم خزي، ومن قد أمر الله برجمه فقد أخزاه، ومن أخزاه فقد أبعده، ومن أبعده فليس لأحد أن يقربه.

قلت: فأخبرني يا ابن رسول الله! عن أمر الله لنبيّه موسي(عليه السلام) (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًي [9] فإنّ فقهاء الفريقين يزعمون أنّها كانت من أهاب الميتة؟

فقال(عليه السلام): من قال ذلك فقد افتري علي موسي، واستجهله في نبوّته، لأنّه ماخلا الأمر فيها من خطيئتين إمّا أن تكون صلاة موسي فيهما جائزة، أو غيرجائزة، فإن كانت صلاته جائزة جازله لبسهما في تلك البقعة، وإن كانت مقدّسة مطهّرة، فليست بأقدس وأطهر من الصلاة، وإن كانت صلاته غير جائزة فيهما فقد أوجب علي موسي أنّه لم يعرف الحلال من الحرام، وماعلم ماتجوز فيه الصلاة ومالم تجز، وهذا كفر.

قلت: فأخبرني يامولاي، عن التأويل فيهما؟

قال: إنّ موسي ناجي ربّه بالواد المقدّس، فقال: ياربّ! إنّي قد أخلصت لك



[ صفحه 49]



المحبّة منّي وغسلت قلبي عمّن سواك - وكان شديد الحبّ لأهله -، فقال الله تعالي: (اخْلَعْ نَعْلَيْكَ) اي انزع حبّ أهلك من قلبك إن كانت محبّتك لي خالصة، وقلبك من الميل إلي من سواي مغسولا.

قلت: فأخبرني يا ابن رسول الله! عن تأويل (كهيعص) [10] ؟

قال: هذه الحروف من أنباء الغيب أطلع الله عليها عبده زكريّا، ثمّ قصّها علي محمّد(صلي الله عليه و اله وسلم)، وذلك أنّ زكريّا سأل ربّه أن يعلّمه أسماء الخمسة، فأهبط عليه جبرئيل فعلّمه إيّاها، فكان زكريّا إذا ذكر محمّدا وعليّاً وفاطمة والحسن والحسين سري عنه همّه وانجلي كربه.

وإذا ذكر الحسين خنقته العبرة، ووقعت عليه البهرة، فقال: ذات يوم: ياإلهي! ما بالي إذا ذكرت أربعاً منهم تسلّيت بأسمائهم من همومي، وإذا ذكرت الحسين تدمع عيني وتثور زفرتي؟

فأنباه الله تعالي عن قصّته، وقال: (كهيعص) (فالكاف) اسم كربلاء، و(الهاء) هلاك العترة، و(الياء) يزيد، وهو ظالم الحسين(عليه السلام)، و(العين) عطشه، و(الصاد) صبره.

فلمّا سمع ذلك زكريّا لم يفارق مسجده ثلاثة أيّام، ومنع فيها الناس من الدخول عليه، وأقبل علي البكاء والنحيب، وكانت ندبته:

«إلهي أ تفجّع خير خلقك بولده؟

إلهي أ تنزل بلوي هذه الرزيّة بفنائه؟

إلهي أ تلبس عليّاً وفاطمة ثياب هذه المصيبة؟

إلهي أ تحلّ كربة هذه الفجيعة بساحتهما؟!»

ثمّ كان يقول: «اللهمّ ارزقني ولداً تقرّ به عيني علي الكبر، واجعله



[ صفحه 50]



وارثاً وصيّاً، واجعل محلّه منّي محلّ الحسين، فإذا رزقتنيه فافتنّي بحبّه ثمّ فجّعني به كما تفجّع محمّداً حبيبك بولده».

فرزقه الله يحيي، وفجّعه به. وكان حمل يحيي ستّة أشهر، وحمل الحسين(عليه السلام) كذلك، وله قصّة طويلة.

قلت: فأخبرني يامولاي، عن العلّة التي تمنع القوم من اختيار إمام لأنفسهم؟

قال: مصلح أو مفسد؟

قلت مصلح، قال: فهل يجوز أن تقع خيرتهم علي المفسد بعد أن لايعلم أحد مايخطر ببال غيره من صلاح أو فساد؟

قلت: بلي! قال: فهي العلّة وأوردها لك ببرهان ينقاد له عقلك، أخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله تعالي، وأنزل عليهم الكتاب، وأيّدهم بالوحي والعصمة إذ هم أعلام الأُمم، وأهدي إلي الإختيار منهم مثل موسي وعيسي(عليهما السلام)، هل يجوز مع وفور عقلهما وكمال علمهما إذا همّا بالاختيار أن يقع خيرتهما علي المنافق، وهما يظنّان انّه مؤمن؟ قلت: لا.

فقال: هذا موسي كليم الله مع وفور عقله، وكمال علمه، ونزول الوحي عليه اختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربّه سبعين رجلا ممّن لا يشكّ في إيمانهم وإخلاصهم، فوقعت خيرته علي المنافقين.

قال الله تعالي: (وَاخْتَارَ مُوسَي قَوْمَهُ و سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَتِنَا) [11] .

-إلي قوله - (لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّي نَرَي اللَّهَ جَهْرَةً) [12] (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ). [13] .



[ صفحه 51]



فلمّا وجدنا اختيار من قد اصطفاه الله للنبوّة واقعاً علي الأفسد دون الأصلح وهو يظنّ انّه الأصلح دون الأفسد، علمنا أن لا اختيار إلّا لمن يعلم ماتخفي الصدور، وما تكنّ الضمائر، وتتصرّف عليه السرائر، وأن لاخطر لاختيار المهاجرين والأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء علي ذوي الفساد لمّا أرادوا أهل الصلاح.

ثمّ قال مولانا: يا سعد! وحين ادّعي خصمك: أنّ رسول الله(صلي الله عليه و اله وسلم) لما أخرج مع نفسه مختار هذه الأُمّة إلي الغار إلّا علماً منه أنّ الخلافة له من بعده، وأنّه هو المقلّد أمور التأويل والملقي إليه أزمّة الأُمّة، وعليه المعوّل في لمّ الشعث، وسدّ الخلل، وإقامة الحدود، وتسريب الجيوش لفتح بلاد الكفر، فكما أشفق علي نبوّته أشفق علي خلافته، إذ لم يكن من حكم الاستتار والتواري أن يروم الهارب من الشرّ مساعدة من غيره إلي مكان يستخفي فيه، وإنّما أبات عليّاً علي فراشه لما لم يكن يكترث له ولم يحفل به لاستثقاله إيّاه وعلمه أنّه إن قتل لم يتعذّر عليه نصب غيره مكانه للخطوب التي كان يصلح لها، فهلّا نقضت عليه دعواه بقولك: أليس قال رسول الله(صلي الله عليه و اله وسلم): الخلافة بعدي ثلاثون سنة، فجعل هذه موقوفة علي أعمار الأربعة الذين هم الخلفاء الراشدون في مذهبكم، فكان لا يجد بدّاً من قوله لك: بلي!

قلت: فكيف تقول حينئذ أليس كما علم رسول الله أنّ الخلافة من بعده لأبي بكر علم أنّها من بعد أبي بكر لعمر، ومن بعد عمر لعثمان، ومن بعد عثمان لعليّ، فكان أيضاً لا يجد بدّاً من قوله لك: نعم، ثمّ كنت تقول له: فكان الواجب علي رسول الله(صلي الله عليه و اله وسلم) أن يخرجهم جميعاً [علي الترتيب] إلي الغار، ويشفق عليهم كما أشفق علي أبي بكر ولا يستخفّ بقدر هؤلاء الثلاثة بتركه إيّاهم وتخصيصه أبا بكر وإخراجه مع نفسه دونهم.



[ صفحه 52]



ولمّا قال: أخبرني عن الصدّيق والفاروق أسلما طوعاً أو كرهاً، لِمَ لم تقل له: بل أسلما طمعاً، وذلك بأنّهما كانا يجالسان اليهود ويستخبرانهم عمّا كانوا يجدون في التوراة وفي سائر الكتب المتقدّمة الناطقة بالملاحم من حال إلي حال من قصّة محمّد(صلي الله عليه و اله وسلم)، ومن عواقب أمره.

فكانت اليهود تذكر أنّ محمّداً يسلّط علي العرب كماكان بخت نصّر سلّط علي بني اسرائيل، ولابدّ له من الظفر بالعرب كما ظفر بخت نصّر ببني اسرائيل، غير أنّه كاذب في دعواه أنّه نبيّ، فأتيا محمّداً، فساعداه علي شهادة أن لا إله إلّاالله، وبايعاه، طمعاً في أن ينال كلّ واحد منهما من جهته ولاية بلد إذا استقامت أموره، واستتبّت أحواله.

فلمّا آيسا من ذلك تلثّما، وصعدا العقبة مع عدّة من أمثالهما من المنافقين علي أن يقتلوه، فدفع الله تعالي كيدهم، وردّهم بغيظهم لم ينالوا خيراً كما أتي طلحة والزبير عليّاً(عليه السلام) فبايعاه، وطمع كلّ واحد منهما أن ينال من جهته ولاية بلد، فلمّا آيسا نكثا بيعته وخرجا عليه، فصرع الله كلّ واحد منهما مصرع أشباههما من الناكثين.

قال سعد: ثمّ قام مولانا الحسن بن عليّ الهادي(عليه السلام) للصلاة مع الغلام، فانصرفت عنهما وطلبت أثر أحمد بن إسحاق، فاستقبلني باكياً، فقلت: ماأبطأك وأبكاك؟

قال: قد فقدت الثوب الي سألني مولاي إحضاره، قلت: لا عليك، فأخبره، فدخل عليه مسرعاً، وانصرف من عنده متبسّماً، وهو يصلّي علي محمّد وآل محمّد، فقلت: ما الخبر؟

قال: وجدت الثوب مبسوطاً تحت قدمي مولانا يصلّي عليه.

قال سعد: فحمدنا الله تعالي علي ذلك، وجعلنا نختلف بعد ذلك اليوم إلي منزل مولانا أيّاماً، فلا نري الغلام بين يديه.



[ صفحه 53]



فلمّا كان يوم الوداع دخلت أنا وأحمد بن إسحاق وكهلان من أهل بلدنا وانتصب أحمد بن إسحاق بين يديه قائماً، وقال: يا ابن رسول الله! قد دنت الرحلة واشتدّ المحنة، فنحن نسأل الله تعالي أن يصلّي علي المصطفي جدّك، وعلي المرتضي أبيك، وعلي سيّدة النساء أُمّك، وعلي سيّدي شباب أهل الجنّة عمّك و أبيك، وعلي الأئمّة الطاهرين من بعدهما آبائك، وأن يصلّي عليك وعلي ولدك، و نرغب إلي الله أن يعلي كعبك [14] ، ويكبت عدوّك ولاجعل الله هذا آخر عهدنا من لقائك، قال: فلمّا قال هذه الكلمات استعبر مولانا حتّي استهلّت دموعه، وتقاطرت عبراته، ثمّ قال: يا ابن إسحاق! لاتكلّف في دعائك شططاً، فإنّك ملاق الله تعالي في صدرك هذا، فخّر أحمد مغشيّاً عليه، فلمّا أفاق، قال: سألتك بالله وبحرمة جدّك إلّا شرّفتني بخرقة أجعلها كفناً؟

فأدخل مولانا يده تحت البساط فأخرج ثلاثة عشر درهماً، فقال: خذها ولاتنفق علي نفسك غيرها! فإنّك لن تعدم ما سألت، وإنّ الله تبارك وتعالي لن يضيع أجر من أحسن عملاً.

قال سعد: فلمّا انصرفنا بعد منصرفنا من حضرة مولانا من حلوان علي ثلاثة فراسخ، حمّ أحمد بن إسحاق وثارت به علّة صعبة أيس من حياته فيها، فلمّا وردنا حلوان ونزلنا في بعض الخانات دعا أحمد بن إسحاق برجل من أهل بلده كان قاطناً بها. ثمّ قال: تفرّقوا عنّي هذه الليلة واتركوني وحدي، فانصرفنا عنه، ورجع كلّ واحد منّا إلي مرقده.

قال سعد: فلمّا حان أن ينكشف الليل عن الصبح أصابتني فكرة، ففتحت



[ صفحه 54]



عيني فإذا أنا بكافور الخادم، (خادم مولانا أبي محمّد(عليه السلام)) وهو يقول: أحسن الله بالخير عزاءكم، وجبر بالمحبوب رزيّتكم، قد فرغنا من غسل صاحبكم ومن تكفينه، فقوموا لدفنه فإنّه من أكرمكم محلّاً عند سيّدكم، ثمّ غاب عن أعيننا، فاجتمعنا علي رأسه بالبكاء والعويل حتّي قضينا حقّه، وفرغنا من أمره(ره). [15] .



[ صفحه 55]




پاورقي

[1] إكمال الدين وإتمام النعمة: 408، ح 7. يأتي الحديث بتمامه في رقم 500.

[2] غافر: 40 / 84.

[3] يقال: قرمت إلي لقائه: أي اشتقت إليه. المنجد: 624 (قرم).

[4] ضفّة الوادي: جانباه، وقال أبو منصور: الصواب ضفّة بالفتح والكسر، لسان العرب: 9 / 207، (ضفف).

[5] الجراب بالكسر: وعاء من إهاب شاة يوعي فيه الحبّ والدقيق ونحوهما. مجمع البحرين:2 / 23 (جرب).

[6] الحقيبة: الرفادة التي تجعل في مؤخّر القتب، والجمع: حقاب. مجمع البحرين: 2 / 45 (حقب) وفي 139: القتب بالتحريك: رحل البعير صغير علي قدر السنام.

[7] أرهج الرجل: أثار الغبار، والرهج بالتحريك: الغبار. أقرب الموارد: 2 / 443، (رهج).

[8] غَرَب اللسان: حِدّته. مجمع البحرين: 2 / 131، (غرب).

[9] طه: 20 / 12.

[10] مريم: 19 / 1.

[11] الأعراف: 7 / 155.

[12] البقرة:2 / 55.

[13] النساء: 4 / 153.

[14] في الحديث: أعلي الله كعبي بكم، والضمير لأهل البيت«عليهم السلام»، ومعناه الشرف والرفعة. مجمع البحرين: 2 / 161، (كعب).

[15] إكمال الدين وإتمام النعمة: 454، ح 21. عنه حلية الأبرار: 5 / 212، ح 2، بتفاوت يسير، ووسائل الشيعة: 19 / 147، ح 24337، قطعة منه، ومدينة المعاجز: 7 / 586، ح 2577، و587، ح 2578، قطعتان منه، و8 / 45، ح 2676، قطعة منه، وإثبات الهداة: 1 / 115، ح 166، باختصار، و3 / 671، ح 41، قطعة منه، والبرهان: 3 / 3 ح 3، قطعة منه. دلائل الإمامة: 506، ح 492، وفيه: أخبرني أبو القاسم عبد الباقي بن يزداد بن عبد الله البزّاز، قال: حدّثنا أبو محمّد عبد الله محمّد الثعالبيّ، قراءة في يوم الجمعة مستهلّ الرجب، سنة سبعين وثلاثمائة، قال: أخبرنا أبو عليّ أحمد بن محمّد بن يحيي العطّار، عن سعد بن عبد الله بن أبي خلف القمّيّ، قال: كنت...، بتفاوت يسير. عنه مدينة المعاجز: 8 / 49، ح 2677، وحلية الأبرار: 5 / 225، س 4، أشار إليه.

الاحتجاج: 2 / 523، ح 341، بتفاوت. عنه تأويل الآيات الظاهرة: 292، س 6، قطعة منه. وعنه وعن الإكمال والدلائل، البحار: 52 / 78، ح 1.

إرشاد القلوب: 421، س 22، باختصار. الخرائج والجرائح: 1 / 481، ح 22، باختصار. عنه مدينة المعاجز: 8 / 159، ح 2761. الثاقب في المناقب: 585، ح 534، قطعة منه، مرسلاً. ينابيع المودّة: 3 / 319، ح 5، قطعة منه. قطعة منه في (لقبه«عليه السلام»)، و(شمائله«عليه السلام»)، و(أحوال ابنه المهديّ«عليهما السلام»)، و(إخباره«عليه السلام» بموت أحمد ابن إسحاق)، و(إحضار الثوب من غير سبب)، و(بكاؤه«عليه السلام» عند وداع الأصحاب)، و(صلاته مع ابنه المهديّ«عليهما السلام»)، و(كيفيّة كتابته«عليه السلام»)، و(هدايا الناس إليه)، و(إعطاؤه«عليه السلام» الدنانير والدراهم)، و(إرسال خادمه«عليه السلام» لتجهيز أحمد بن إسحاق)، و(غلمانه وجواريه«عليه السلام»)، و(مدح أحمد بن إسحاق).