بازگشت

فضائل الحسن العسكري بشهادة مبغض


منذ يوم أمس و الأبناء في شوق لحديث أبيهم، و من شوقهم للحديث تمنوا لو أنهم يذهبون الي أبيهم في عمله عسي أن يبدأ حديثه لهم هناك، الا أن الذي منعهم من ذلك عدم أخذ الاذن منه في الحضور اليه.

كان الوقت طويلا عليهم رغم مروره كالمعتاد، اذ الساعة من الزمان لم تزل ساعة، ما طرأت عليها زيادة أو تغيير، انما طوله قد حصل نتيجة الانتظار و الرغبة في مروره، يكفي أن نعلم رغبتهم في مضية أنهم ينظرن الي ساعة الجدار بين دقيقة و أخري، و من ضجرهم من كثرة النظر الي الساعة خرجوا الي حديقة المنزل و كأنهم يريدون مراقبة الوقت من خلال نظرهم الي الشمس متحينين غروبها، فملوا ذلك أيضا، لأن الساعة أرحم من ضوء الشمس الذي لا يتغير الا ساعة الغروب.

لمست الأم قلق أبنائها و جزعهم، و لكي تساعدهم علي قضائه كلفت الكبير بالذهاب الي الخباز لشراء الخبز، و ما أن خرج الابن



[ صفحه 107]



الأكبر حتي نادت علي الأوسط و كلفته بالذهاب الي دار أخته الذي يبعد عن دارهم قليلا ليسأل عن حالها و حال أبنائها.

و قبل حضورهم كان الأب قد حضر الي داره، و حينما لم يجد ابنيه في الدار سأل زوجته عنهم فقصت عليه نبأ جزعهم من الانتظار، فتبسم الأب، ثم دخل الغرفة و أخذ مجلسه فيها.

و حضر الأبناء، و علموا أن أباهم قد حضر، فسارعوا اليه و حيوه و جلسوا الي جانبه، فما كان من الأب الا أن بدأ الحديث قائلا: هناك بيت من الشعر يقول:



و عين الرضا عن كل عيب كليلة

و لكن عين السخط تبدي المساويا



ثم تابع الأب: و هذا البيت يعني أن المحب لا يري من حبيبه الا الجميل، و في كثير من الأحيان يري القبيح منه حسنا، أما ان كان ساخطا فلا يري من الساخط عليه الا القبيح، و في كثير من الأحيان يري الحسن قبيحا أيضا، و قلما تجد مبغضا ساخطا يحدثك عن الحسن و الجميل الذي فيمن بغضه، و ان حصل ذلك فهي صرخة الحق كما أسميناها، و هذا ما حصل من المبغضين لآل البيت في زمن الامام الحسن العسكري عليه السلام.

فقال الابن الأكبر: و من هو يا أبي؟ و ما حصل منه؟

فقال الأب: هو أحمد بن عبيد الله بن خاقان، و كان حينها عامل الخليفة العباسي علي الخراج و الضياع بكورة قم، و كان من أنصب خلق الله و أشدهم عداوة.

و الذي حصل منه ما رواه رجل من أهل قم كان قد حضر مجلسه، و قد جري ذكر المقيمين من آل أبي طالب عليهم السلام بسر من



[ صفحه 108]



رأي، و مذاهبهم و صلاحهم و أقدارهم عند السلطان، فقال أحمد بن عبيد الله:

ما رأيت و لا عرفت بسر من رأي، رجلا من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا عليه السلام، و لا سمعت به في هديه، و سكونه، و عفافه، و نبله، و كرمه عند أهل بيته و السلطان، و جميع بني هاشم، و تقديمهم أياه علي ذوي السن منهم و الخطر، و كذلك القواد و الوزراء و الكتاب و عوام الناس.

ثم قال أحمد بن عبيد الله بن خاقان: و اني كنت قائما ذات يوم علي رأس أبي، و هو يوم مجلسه للناس، اذا دخل عليه حجابه فقالوا: ابن الرضا علي الباب.

ثم قال: فقال أبي بصوت عال: ائذنوا له.

فدخل رجل أسمر أعين، حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن، حدث السن، له جلالة و هيبة، فلما نظر اليه أبي قام فمشي اليه خطوات، لا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم، و لا بالقواد، و لا بأولياء العهد، فلما دني عانقه، و قبل وجهه و منكبيه، و أخذ بيده فأجلسه علي مصلاه الذي كان عليه، و جلس الي جنبه مقبلا عليه بوجهه، و جعل يكلمه و يكنيه، و يفديه بنفسه و بأبويه، و أنا متعجب مما أري منه، اذ دخل عليه الحجاب، فقالوا: الموفق قد جاء، و كان الموفق اذا جاء و دخل علي أبي، تقدم حجابه و خاصة قواده، فقاموا بين مجلس أبي، و بين الباب سماطين، الي أن يدخل و يخرج، فلم يزل أبي مقبلا عليه يحدثه، حتي نظر الي غلمان الخاصة، فقال حينئذ: اذا شئت فقم جعلني الله فداك أبامحمد، و قال لغلمانه: خذوا به خلف السماطنين لئلا يراه الأمير، يعني الموافق، و قام أبي و عانقه، و قبل وجهه، و مضي.



[ صفحه 109]



قال أحمد بن عبيد الله بن خاقان: فقلت لحجاب أبي و غلمانه: ويلكم، من هذا الذي فعل به أبي هذا الذي فعل؟

فقالوا: هذا رجل من العلوية، يقال له الحسن بن علي، يعرف بابن الرضا عليه السلام.

قال أحمد: فازددت عجبا، فلم أزل يومي ذلك قلقا متفكرا في أمره، و أمر أبي، و ما رأيت منه، حتي كان الليل، و كانت عادته أن يصلي العتمة ثم يجلس فينظر فيما يحتاج اليه من المؤامرات و ما يرفعه الي السلطان، فلما جلس جئت فجلست بين يديه، فقال: يا أحمد، ألك حاجة؟ قلت: نعم يا أبه، ان أذنت سألتك عنها، فقال: قد أذنت لك يا بني، فقل ما أحببت، فقلت: يا أبه، من الرجل الذي رأيتك الغداة فعلت به ما فعلت من الاجلال و الاكرام و التبجيل، و فديته بنفسك و أبويك؟

فقال: يا بني، ذاك ابن الرضا، ذاك امام الرافضة.

قال أحمد: فسكت ساعة، فقال: يا بني، لو زالت الخلافة عن خلفاء بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غير هذا، فان هذا يستحقها في فضله، و عفافه، و هديه، و صيانة نفسه، و زهده، و عبادته، و جميل أخلاقه، و صلاحه، و لو رأيت أباه لرأيت رجلا جليلا خيرا فاضلا.

قال أحمد: فازددت قلقا، و تفكرا، و غيظا علي أبي، مما سمعته منه فيه، و لم يكن لي همة بعد ذلك، الا السؤال عن خبره، و البحث عن أمره، فما سألت أحدا من بني هاشم و القواد و الكتاب و القضاة و الفقهاء و سائر الناس، الا وجدته عندهم في غاية الاجلال، و الاعظام، و المحل الرفيع، و القول الجميل، و التقديم له



[ صفحه 110]



علي أهل بيته و مشايخه و غيرهم، و كل يقول: هو امام الرافضة، فعظم قدره عندي، اذ لم أر له وليا و لا عدوا الا و هو يحسن القول فيه، و الثناء عليه [1] .

فقال الابن الأكبر: فمن كانت هذه أخلاقه و سجاياه يا أبي فلم يساء اليه؟

الأب: ثلاث خصال مذمومة أن تخلق بها الانسان دفعته لارتكاب المعاصي و فعل المنكر ألا و هي الشره الي الطعام و حب المال و شهوة الجنس، و مصادق ذلك ما روي عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قال: «من وقي شر قبقبه و ذبذبه و لقلقه فقد وقي».

فقال الابن الأكبر: و ما تفسير هذه الكلمات يا أبي؟

فقال الأب: القبقب هو البطن، و الذبذب هو الفرج، و اللقلق هو اللسان، و في رواية أن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قال: ويل للناس من القبقبين، فقيل: و ما هما يا رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم؟ قال صلي الله عليه و آله و سلم: الحلق و الفرج، ثم قال صلي الله عليه و آله و سلم: أكثر ما يلج به أمتي النار الأجوفان، البطن، و الفرج.

و من سوء عاقبة الانسان اذا كثر همه لهذه الخصال التي ذمت كثيرا كما في قوله صلي الله عليه و آله و سلم: (ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه)، و قوله عليه السلام: (أبغض الناس الي الله المتخمون الملأي). لأن ذلك سيؤدي به الي أن يسلك غير سلوك المؤمنين.

قال لقمان الحكيم يعظ ابنه: يا بني اذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، و خرست الحكمة، و قعدت الأعضاء عن العبادة.

و شهوة الفرج شر كبير، و هم كثير، و هو يؤدي بصاحبه



[ صفحه 111]



لارتكاب المحرمات، و اقتحام الفواحش، و من اعتاد ذلك هان عليه فعل أي قبيح دون أي يكون له رادع يردعه، فمن دعاء لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قال فيه: اللهم اني أعوذ بك من شر سمعي و بصري و قلبي و شر منيي.

و حينما سئل يحيي بن زكريا عليهماالسلام: ما بدء الزنا؟ قال عليه السلام: النظرة و التمني.

ثم قال الأب: و لو أعدنا النظر بسيرة الحكام الذين آذوا آل بيت النبي الأطهار، نجدهم جميعا دون استثناء قد ابتلوا بحب الشهوات من النساء و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسومة و الأنعام و الحرث، اضافة الي شراهة الكثيرين منهم الي الطعام و الشراب حتي بلغ ببعضهم أنهم ملوا كثرة الأكل.

و مما سجله التاريخ بذلك الكثير، و منه: غالي الخلفاء في استحضار ما اشتهر بطيبة من ألوان اللحوم و الطيور و الفاكهة، و لو بعد مكانه، فيحملونه علي البريد، ينفقون في ذلك الأموال الكثيرة [2] .

و ذكر أيضا: و كانوا يربون الطيور الداجنة علي أطعمة مغذية يتوهمون أنها تزيد في لذتها و طعمها أو نفعها أو تسهل هضمها، فكانوا يعلفون الفراريج الجوز المقشر، و يسقونها اللبن الحليب [3] .

و كان الخلفاء يتولون شؤون الدولة بأيديهم، فتصرفوا في أموالها دون محاسب أو رقيب، قم أنفقوا الكثير منها في الجوائز



[ صفحه 112]



و الهدايا، و بذلوها من أجل ملذاتهم من طعام و شراب و جواري و رياش و أثواب و أثاث، و لم يقتصر البذخ و الثراء علي الخلفاء فحسب و انما حتي أمهاتهم كما كان حال الخيزران أم الرشيد، و قبيحة أم المعتز و غيرهما، ثم تعدي الأمر هؤلاء الي الوزراء كالحسن بن فرات و المادرائي و ابن كلس و الأفضل و ابن شهيد الأندلسي، و أول من أثري من الوزراء البرامكة من عهد الرشيد [4] .

أما ولع الخلفاء بالجواري فهذا ما تحدثت به الكتب، و أن من المؤلم أنه أصبح جزءا من تاريخ ذلك الزمان، و كان السبب في ذلك هو تمادي الكثيرون منهم في حب الجواري، حتي تسلطت بعضهن علي عقولهم، كما فعلت حبابة بيزيد بن عبد الملك الأموي، حتي كادت تذهب عقله، و شغلته عن مهام الخلافة، و كما فعلت ذات الخال في الرشيد، فانها ملكت قيادة حتي حلف يوما أنها لا تسأل شيئا في ذلك اليوم الا قضاه لها، فسألته أن يولي حموية الحرب و الخراج بفارس سبع سنين، ففعل و كتب له عهده، و به شرط علي ولي عهده بعده أن يتمها له ان لم تتم في حياته [5] ، و نتيجة لاهتمام الخلفاء بالجواري و هيام بعضهم ببعضهن فقد شغلوا عن رعاية الملك، و الاهتمام بمصالح العامة من الناس، و لذلك فقد استخدم بعض ذوي الحيلة و المصلحة، هذه الجواري للجاسوسية، أو لنيل رتبة أو منصب، كما استخدم الخلفاء أنفسهم ذلك، فقد روي أن



[ صفحه 113]



المأمون يدس الوصائف هدية ليطلعنه علي أخبار من شاء [6] .

ثم قال الأب: بمثل هذا و غيره من الأساليب كان انشغال الخلفاء، اضافة الي الرغبة العارمة التي كانوا عليها اتجاه الجواري، و هذا الهوي كان دافعا لهم الي اللامبالات في ارتكاب المعاصي و الآثام و فعل المنكر، ناهيك عن ايمانهم الذي كان التصريح له بالألسن دون الجوارح، و بالقول دون الفعل، و قتل آل البيت كان واحدا من الأدلة علي بعدهم عن الطريق السليم الذي سنه الله و رسوله لعباده.

فقال الابن الأكبر: مسألة خروجهم عن الصراط هي في حكم المنتهي منه، اذا كان المقياس لذلك هو القرآن الكريم و السنة النبوية الشريفة و ذلك لما ورد من أحاديث نبوية كريمة في حث المسلمين علي اتباع آل البيت و عدم مخالفتهم، اضافة الي وجوب و دهم و موالاتهم، و ما سؤالي عن سبب الاساءة لآل البيت الأطهار، الا حزنا لهم عليهم السلام علي الكيفية التي جازي بها الناس رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم علي ما كان منه من حب للناس و استعداد لايثار هداهم علي راحته و سلامته و طمأنينته، فتحمل ما تحمل من أذي المشركين و تطاولهم عليه صلي الله عليه و آله و سلم سواء بالقول أو الفعل.

فقال الأب: نعم يا ولدي لم يكن الجزاء منصفا، و هم بذلك لم ينصفوا حتي أنفسهم، كما لم ينصفوا الناس أيضا.

فقال الابن الأكبر: ما رأيك يا أبي أن ندع الضالين و أفعالهم، و نرجع بحديثنا عن الامام الحسن العسكري عليه السلام؟

فقال الأب: ان الحديث عن آل البيت عليهم السلام أكثر نفعا للمسلم



[ صفحه 114]



دون شك في ذلك، و ما حديثنا عن الخلفاء و غيرهم، الا لتوضيح ما كان يتعرض له آل البيت عليهم السلام من الأذي و القتل، بأمر من هؤلاء الخلفاء أنفسهم.

ثم تابع الأب حديثه قائلا: أما الآن فنكتفي بما تحدثنا به اليوم، علي أمل أن نستمر في الحديث يوم غد ان شاء الله.



[ صفحه 115]




پاورقي

[1] رواه الصدوق في اكمال الدين.

[2] لطائف المعارف: ص 95. و ابن بطوطة: ج 2، ص 3.

[3] طبقات الأطباء: ج 1، ص 140.

[4] راجع تاريخ المتحدث الاسلامي: لجرجي زيدان، ج 5، ص 119. طبع دار الهلال تعليق الدكتور حسين مؤنس.

[5] الأغاني: ج 15، ص 80.

[6] العقد الفريد: ج 1، ص 148.