بازگشت

شهادة الامام العسكري


حضر الأب كعادته كل يوم بعد المغرب بقليل، و كان الأبناء قد تهيأوا في غرفة الجلوس في انتظاره، فدخل عليهم مسلما، فتلقاه الأبناء بفرح و ترحاب، و أخذ مكانه بينهم، و ما هي الا دقائق حتي بدأ حديثه قائلا، حديثنا اليوم عن شاب لم يتجاوز التاسعة و العشرين من عمره، قتل مسموما ظلما و عدوانا كما قتل من قبل أبائه و أجداده، لا لذنب أذنبه، و لا بجريرة كانت منه، و انما لاخلاصه في الايمان، و رغبته في أن يتوجه الناس، كل الناس لعبادة الله تعالي، رغبة في عبادته جل جلاله أكثر من كونها رهبة من عذابه.

لم يردعهم في قتله اسلامه الصادق و ايمانه الحق، و لا علمه الواسع الذي ورثه عن آبائه و أجداده، ولا للقرابة القريبة التي له من رسول الله محمد صلي الله عليه و آله و سلم، لقد كان بغضهم له أقوي من كل هذه الأعذار التي كان من المفترض أن تردعهم عن فعلتهم الأثيمة، فتآمر عليه عبيد الدنيا و طلاب زينتها و متاعها، فسموه بالسم الزعاف، و لو كانوا أمنوا غضبة الناس لقتلوه بالسيوف، كان خوفهم من غضب



[ صفحه 136]



المسلمين أكبر من خوفهم من غضب الله تعالي، و كأنهم لم يؤمنوا باليوم الذي تشخص فيه الأبصار.

كان ذلك قد حدث في شهر ربيع الأول لأيام قلائل قد مضت منه، في سنة ستين و مائتين للهجرة النبوية الشريفة، حيث ضجت سر من رأي ضجة واحدة... مات ابن الرضا... مات الحسن بن علي الهادي... مات ابن فاطمة الزهراء... مات الرضي... مات التقي.. مات أبومحمد الحسن العسكري.

و لكي يبري ء الفاعل نفسه أمام الناس بعث بأبي عيسي بن المتوكل العباسي ليكشف وجه الامام العسكري عليه السلام و يعرضه علي بني هاشم من العلويين و العباسيين، و القواد و الكتاب و القضاة و الفقهاء و المعدلين، و يقول: هذا الحسن بن علي بن محمد بن الرضا، مات حتف أنفه علي فراشه، و قد حضره من خدم أميرالمؤمنين و ثقاته فلان و فلان، و من المتطببين فلان و فلان، ثم غطي وجهه الكريم. و ما كفاهم قتل الامام الحسن العسكري عليه السلام، و انما اضطربوا في طلب ولده، و كثر التفتيش في المنازل و الدور، و كانت حجتهم في ذلك تقسيم الميراث، فذكر البعض أن هناك جارية بها حمل، فأمر بها، فجعلت في حجرة، و وكل تحرير الخادم و أصحابه و نسوة معهم بحراستها و مراقبتها، و لم يزل الذين و كلوا بحفظ الجارية و مراقبتها ملازمين لها سنتين أو أكثر، حتي تبين لهم بطلان الحمل، و لم يمنعهم ذلك من الاستمرار في البحث عن ولد الامام العسكري، الذي شاء الله تعالي أن يحفظه منهم بستره عنهم و تغييبه، الي ما شاء الله من الزمان، ليظهره جل جلاله بعد ذلك ليملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت ظلما و جورا، و ليجعل حينها الدين كله لله تعالي، و ينشر الاسلام في ربوع هذه الأرض.



[ صفحه 137]



و من الأمور التي تحز في النفس أن جعفر بن علي الهادي عليهماالسلام أخا الامام الحسن بن علي عليهماالسلام سولت له نفسه أن يتعاون مع السلطان، و يطلب الامامة منه لنفسه، و كأن الامامة منحة يمنحها السلطان لمن يري أن يمنحها اياه.

فقال الابن الأكبر مستغربا قول أبيه: و كيف يا أبي؟

فقال الأب: نعم يا ولدي، فهو غير معصوم، و غير المعصوم يكون للشيطان سلطان عليه، الا من رحم ربي، و ملك عقله و فكره، و استطاع بواسطتهما أن يختار لنفسه الطريق القويم الذي يرضي الله سبحانه و تعالي عنه.

فقال الابن الأكبر: حدثنا يا أبي كيف طلب الامامة؟

فقال الأب: لقد روي عن أحمد بن عبيد الله بن خاقان قال: جاء جعفر بن علي الي أبي، و قال له: اجعل لي مرتبة أبي و أخي، و أوصل اليك في كل سنة عشرين ألف دينار، فزبره أبي، و أسمعه و قال له: يا أحمق، ان السلطان جرد سيفه و سوطه في الذين زعموا أن أباك و أخاك أئمة، ليردهم عن ذلك فلم يقدر عليه، و لم يتهيأ له صرفهم عن هذا القول، و جهد أن يزيل أباك و أخاك عن تلك المرتبة فلم يتهيأ له ذلك، فان كنت عند شيعة أبيك و أخيك اماما فلا حاجة بك الي سلطان يرتبك مراتبهم، و لا غير سلطان، و ان لم تكن عندهم بهذه المنزلة، لم تنلها بها، ثم قال أحمد بن عبيدالله بن خاقان: فاستقله عند ذلك و استضعفه، و أمر أن يحجب عنه، فلم يأذن له بالدخول عليه حتي مات أبي، و الأمر علي تلك الحال، و السلطان يطلب أثر ولد الحسن بن علي حتي اليوم [1] .



[ صفحه 138]



و روي الصدوق أيضا في الاكمال قال: وجدت مثبتا في بعض الكتب المصنفة في التواريخ و لم أسمعه عن محمد بن الحسين بن عباد قال: مات أبومحمد عليه السلام، يوم الجمعة مع صلاة الغداة، و كان في تلك الليلة قد كتب بيده كتبا كثيرة الي المدينة، و ذلك في شهر ربيع الأول، لثمان خلون سنة ستين و مائتين للهجرة، و لم يحضره في ذلك الوقت الا صيقل الجارية، و عقيد الخادم، و من علم الله غيرهما.

قال عقيد: فدعي عليه السلام بماء قد أعلي بالمصطكي، فجئنا به اليه، فقال: ابدء بالصلاة، هيئوني، فجئنا به و بسطنا في حجره المنديل، و أخذ من صيقل الماء، فغسل به وجهه و ذراعيه، مرة مرة، و مسح علي رأسه و قدميه مسحا، و صلي صلاة الصبح علي فراشه، و أخذ القدح ليشرب، فأقبل القدح يضرب ثناياه، و يده ترتعد، فأخذت صيقل القدح من يده، و مضي عليه السلام من ساعته، و دفن في داره بسر من رأي، الي جنب أبيه عليه السلام، و صار الي كرامة الله جل جلاله، و قد كمل عمره تسعا و عشرين سنة، و أعلم أن وفاته عليه السلام باتفاق أكثر المحدثين و المؤرخين في ثامن شهر ربيع الأول سنة مائتين و ستين من الهجرة.

و قال الشيخ في المصباح: أنه في أول الشهر المذكور، و الأكثر أنه كان يوم الجمعة، و قيل يوم الأربعاء، و قيل يوم الأحد، و كان عمره الشريف حينئذ تسعة و عشرين سنة، و قيل ثمانية و عشرين سنة، و مدة امامته عليه السلام ما يقرب من ستة سنين.

و قال ابن بابويه و غيره: أن المعتمد أحد خلفاء بني العباس هو الذي سمه [2] .



[ صفحه 139]



فقال الأبن الأكبر: يعني أنه عليه السلام كان شابا حينما قاموا بقتله، كما كان حال جده الامام محمد بن علي الرضا عليهماالسلام.

فقال الأب: نعم يا ولدي، فالامام محمد الجواد عليه السلام كان له من العمر خمسا و عشرين سنة حين توفي مسموما، و الامام الحسن العسكري له من العمر تسعا و عشرين سنة.

فقال الابن الأكبر: أي قلوب فظة غليظة كانت قلوبهم، ماذا سيكون عذرهم حينما يقفون للسؤال يوم القيامة.

فقال الأب: لقد اشتروا متاع الدنيا بالآخرة، و ناداهم الشيطان فاستجابوا له، و ما فرض عليهم فعل ذلك كما تقول الجبرية، و انما كان ذلك من اختيارهم و ما سولت لهم به أنفسهم، و كل نفس بما فعلت رهينة، و كل يجني ما زرعت يداه، و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون

و قال جل جلاله في كتابه العزيز: (هل أتي علي الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا (1) انا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلنه سميعا بصيرا (2) انا هدينه السبيل اما شاكرا و اما كفورا (3) انآ أعتدنا لكفرين سلسلا و أغللا و سعيرا (4) ان الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا (5) عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا (6) يوفون بالنذر و يخافون يوما كان شره مستطيرا (7)) [3] .

ثم قال الأب: و نختم حديثنا عن الامام الحسن العسكري عليه السلام بحمد الله تعالي بمثل ما يحب أن يحمد، و الصلاة و السلام علي محمد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و علي آله الطيبين الطاهرين و سلم تسليما كثيرا.


پاورقي

[1] راجع اكمال الدين، للصدوق.

[2] راجع جلاء العيون: للسيد عبدالله شبر، ج 3، ص 136.

[3] سورة الانسان: الآيات: 7 - 1.